أتختزل السينما اللبنانية خراب البلد؟

29 يوليو 2022
انفجار مرفأ بيروت: عطبٌ يزداد قسوة في ذاتٍ وأحوال واشتغالات (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

 

مُذهلٌ هذا الكَمّ الهائل من الأحداث التي يشهدها لبنان، أقلّه منذ مطلع عام 2022. كلّ حدثٍ يصلح لإنجاز فيلمٍ أو أكثر. كلّ حكاية، وكلّ انفعالٍ، وكلّ حالة، وكلّ صمتٍ، وكلّ خراب، وكلّ شخصية عامة (تحديداً).

في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، مزيدٌ من نهب وفساد وعفن وأكاذيب، وسلوك متعالٍ وذكورية قاتلة. في العلاقات اليومية بين الجميع، توتّر يغلب، وافتراء يحضر، كحضور احتيال وتصنّع واضطراب. في سهراتٍ تُقام كلّ ليلةٍ، والكهرباء مُؤمَّنة غالباً من مولّدات تنهش المرء، بل بقاياه، جسداً وروحاً، كلامٌ وتعبير وعيشٌ، والإيجابي فيها أقلّ من السلبي. في مقاهٍ مُتبقية في بيروت، أو في مطاعم وحاناتٍ، بعضها يفتح ظهر كلّ يومٍ: هذا كَمّ لا يُصدَّق من مسائل صالحة للسينما.

الأزمات المتتالية خزّان ضخم يُمكن لسينما لبنانية أنْ تنهل منه ما تشاء، وكثيرون/كثيرات يُتقنون فنّ الصورة، واشتغالاتهم تؤكّد تمكّناً من صُنع أفلامٍ ممتعة رغم القسوة والموت والأنقاض، وإنْ يكن الواقع أعنف من أنْ تختزله السينما، فتقول شيئاً قليلاً منه، على الأقلّ. الجرائم المرتكبة في كلّ لحظة، قتلاً وتعنيفاً وسرقاتٍ واعتداءاتٍ وتحرّش، كما في نزاع أطراف النظام الحاكم، والقضاء والأجهزة الأمنية والمؤسّسات الدينية، في هذا كلّه، كثيرٌ من العفن وقليلٌ من الصدق، إنْ ينوجد صدقٌ كهذا أصلاً.

 

 

الحاصلُ نواةٌ درامية لأفلامٍ، تنبثق من وقائع عيشٍ في بلدٍ آيل إلى الاضمحلال. فالمآزق، التي يشتدّ تفاقمها ويعنف، تقول إنّ المقبل من الأيام أسوأ من السابق، ولا أحد يريد خلاصاً، ولا أحد يرغب في خلاصٍ، ولا أحد يجهدُ في خلاصٍ. في هذا ما يُعين على جعل الكاميرا السينمائية مرايا ذاتٍ وروح وبيئة وتصرّفات وأقوال وتعاملٍ وتفكير. اختبارات قليلة سابقة تعكس شيئاً من حيوية السينما في مقارباتها المتنوّعة آلام أفرادٍ، وضلال جماعة، ومتاهة بلد. الأزمة الاقتصادية وكورونا والانفجار المزدوج في مرفأ بيروت محطات تمنح السينمائي/السينمائية مدى شاسعاً لتأمّل ومعاينة، ما يؤدّي إلى نتاجٍ متواضع، لكنّه غنيّ بعين ثاقبة، وحساسية مؤثّرة، وجماليات توثِّق، لغة وصُوراً وتوليفاً وسرداً، بعض ما في البلد وناسه من أثقالٍ وانكسارات وفوضى واضطرابات وضياع.

سينما كهذه، رغم قلة نتاجاتها إلى الآن، تُوائم في الوثائقي بين جمالية الصورة ومفرداتها، وبشاعة اللحظة والواقع ومَشاهدهما. الروائيّ الطويل يأتي من أوقاتٍ سابقة على تفشّي المآزق اللبنانية، وتمدّدها الخطر في البلد وناسه، عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، فغالبيتها مشغولة حينها، والمآزق تؤجِّل إكمالها أو عرضها، والراهن يُتيح ذلك. الروائيّ مهمومٌ بحالات البلد وأحوال ناسه، قبل الانتفاضة المعطّلة، فالحالات والأحوال غارقةٌ في مخاطر وخيبات وأوجاعٍ وانهيارات، غير ظاهرة لكثيرين/كثيرات حينها، لكنّها متغلغلة في أجساد وأرواح ونفوس، كما في المدينة وفضائها وجغرافياتها وعمرانها واجتماعها، وهذا ينتبه إليه مخرجون/مخرجات، فيقولون، بالصورة السينمائية وأدواتها، بعضاً منه.

الحاصل راهناً إضافةٌ يومية تمنح السينما اللبنانية فائضاً من الاشتغالات، لكثرة هذا الحاصل، ولكونه أقدر تعبيرٍ عن المعنى الفعلي للبلد وناسه. الحاصل راهناً يُثير غلياناً وضجيجاً، فيحتاج السينمائي/السينمائية إلى مسافةٍ لهدوءٍ يُتيح تأمّلاً.

لعلّ هذا يصلح لروائيّ طويل، لكنّ اشتغالاتٍ عدة، روائية قصيرة ووثائقية تجريبية، تكشف حيوية أناسٍ يخرجون من لحظة خوف ومرارة وقهر وانكسار وخيبة، حاملين جراحاً وكاميرات، وملتقطين شيئاً من موت بلدٍ وأناسٍ.

المساهمون