بين العنوانين، العربي (أبواب) والإنكليزي (تحدَّثْ إليّ، Talk To Me)، يعاين اللبناني ريبال شديد حالة معتادة في العلاقات العائلية، خاصة بين أهل وأبناء/بنات. فيلم التخرّج هذا (2022، 21 دقيقة، "معهد الدراسات المسرحية والسمعية البصرية" في "جامعة القديس يوسف"، بيروت) يُكثِّف، درامياً وسينمائياً وأدائياً وفنياً، إحدى أقسى لحظات المواجهة بين طرفين، تبدو العلاقة بينهما، منذ البداية، مرتبكة، أو غير سليمة على الأقلّ.
تكثيفٌ سينمائي يستند خاصةً إلى ثنائية الأداء والصوت، ويُفكّك نفْساً وروحاً وانفعالاتٍ في شخصين اثنين، يريد أحدهما استكمال سطوته كأبٍ على الآخر، ويجهد الثاني في التحرّر من تلك السطوة، رغم ما لديه من شعورٍ إزاء الأب، شبه الغائب عن المنزل والعلاقة والتواصل (في نهاية "أبواب"، تتوضّح المسألة في لقطةٍ، ستكون إحدى أجمل لحظات الأداء والتعبير الصامت لدى فادي أبي سمرا).
حكاية تُعاش في عائلاتٍ كثيرة: فريد (أبي سمرا) يعمل في دبي. زياراته إلى البلد قليلة. عشية سفره، يتناول الفطور مع ابنه رواد (ريبال شديد، كاتب "أبواب" ومُولّفه أيضاً). دقائق قليلة كافية لتبيان واقعٍ، بفضل أداء يمتلك جمالية تمثيلٍ وتعبيرٍ وبوحٍ بكلماتٍ قليلة، وبفضل تصوير (طوني كيروز) يعكس عيناً سينمائية، تكشف (العين) شغفاً بالصورة، يتجاوز دراسة السينما إلى الأبعد والأهمّ والأجمل فيها.
هذا الواقع متمثّل باضطراب العلاقة بين رواد وفريد. الحاصل لاحقاً تأكيدٌ لهذا، مع اغتنام فريد فرصة استحمام رواد، للدخول إلى غرفته، باحثاً عما "يُقلقه" في تصرّفات ابنه. عند خروج رواد من الحمّام، يتمكّن فريد من غلق باب الغرفة بالمفتاح، فيبدأ حوارٌ قاسٍ وصداميّ وحادّ بينهما، يعكس اشتغالاً مُحترفاً في الأداء، كالمعتاد (أبي سمرا)، وفي الصوت أيضاً (مهندسة الصوت: ليا حداد، تصميم الصوت: جون بول جلوان)، أي في نبرة صوت رواد وكيفية التعبير عمّا يعتمل في ذاته وروحه وانفعالاته.
تدخّل الزوجة/الأم، نوال (رولا بو منصور في صور فوتوغرافية، صوت نينا شديد)، عبر الهاتف، لتهدئة الأمور، غير نافعٍ. التدخّل مبنيٌّ على حاجة درامية إلى تنفيس الاحتقان قليلاً، وإراحة المُشاهد للحظات من الاختناق والضيق والحصار، التي يُثيرها الحوار القاسي والصداميّ والحادّ، وأيضاً إتاحة مجالٍ أوسع لفريد كي يُكمل "مهمّته الانتحارية" هذه (إنْ يصحّ التعبير)، ولأبي سمرا لمزيدٍ من جمالية الأداء.
والحوار، إذْ يستنفد غليانه في مواجهة الطرفين أحدهما للآخر، يمنح لفريد وريبال معاً مساحةً مفتوحة على احتمالات وتوقّعات، تُختزل بمسألتين أساسيتين: ذروة تفكّك العلاقة بينهما، وعدم تحقيق حسمٍ نهائيّ لها. لكنّ تأكيد هاتين المسألتين يحتاج إلى خاتمةٍ للحاصل في 21 دقيقة، بل في حياةٍ وعمرٍ وواقع.
في مقابل حِرفية أداء أبي سمرا، بتقديمه أباً مُشكِّكاً في تصرّفات ابنٍ، مع أنّه (الأب) غير حاضرٍ في حياته (الابن) بشكلٍ مقبول ومرغوب فيه من قِبل رواد (بل ربما بسبب عدم حضوره)؛ هناك ذاك الصوت المقبل من وراء الباب المغلق، غير المكتفي بالتعبير عن غضبٍ وقهرٍ إزاء الأب، كصورة وسلطة ومكانة، وكمقتحمٍ لخصوصية يتمسّك بها رواد، مع عجزه عن حمايتهما (الخصوصية والتمسّك)، ففي "أداء الصوت" ما يتجاوز النبرة إلى فعلٍ تمثيلي. أينبعُ صراخ رواد/ريبال شديد من قهرٍ وتأذٍّ؟ أتختزل نبرةُ رواد وجعَ ريبال؟
صوت رواد تمثيلٌ، يُترجِم انفعاله وغضبه وقهره بنبرةٍ نابعةٍ من قلبٍ محطّم ومتأذٍّ. اتقان الصوت والنبرة تمثيلٌ، وإنْ يكن غير مرئيّ، بقدر ما أنّه محسوسٌ ومُعاش. تمثيلٌ من دون جسدٍ وحركة، لأنّه روحٌ وانفعالٌ وبوح. فاقتحام الخصوصية غير مُتوقّف عند الدخول إلى غرفة رواد، وإغلاق الباب بالمفتاح. هناك جارورٌ مغلق أيضاً، يريد فريد أنْ يفتحه لـ"يتأكّد" ممّا "يُقلقه" في تصرّفات رواد. هذا يُزيد القسوة والصدام بينهما حدّةً.
ذكْرُ تفاصيل كهذه، في تعليقٍ نقديّ، غير كاشفٍ مضامين الحاصل في النزاع بين الأب والابن، وغير حائلٍ دون متعة مُشاهدة هذا النزاع وعيشه. الاشتغالات السينمائية في "أبواب" أهمّ من "الحكاية" وسردها، إنْ يكن الفيلم مبنياً، فقط، على حكاية وسردٍ لها. ذكر التفاصيل غير شاملٍ كلّ الحاصل في غرفة رواد، التي بابها مُغلقٌ، كبقية الـ"أبواب" القائمة بين رجل/أب وشاب/ابن، وبين فردٍ وذاته، وبين واقع ورغبات.