يقول الأميركي أبل فيرّارا (1951) إنّه راغبٌ في تحقيق مشروع سينمائي جديد، قريباً، موضوعه "عزيزٌ جداً" على قلبه. ذات يوم، يقرأ كتاب الطبيب الروماني الهنغاري ميكلوش نيسلي (1901ـ 1956)، "كنتُ طبيبَ تشريحٍ عند الدكتور مِنغِلي في محرقة الجثث في أوشفيتز"، الصادر في هنغاريا عام 1946 (طبعته الفرنسية الأولى صادرة عام 1961، بعنوان "طبيب في أوشفيتز ـ ذكريات طبيب مُرحَّل"). الكتاب هذا خليطٌ بين شهادة شخصية عمّا يتذكّره من عمله في وحدة Sonderkommandos (تشكيلٌ نازي لسجناء المعتقلات، غالبيته مؤلّفة من اليهود، الذين يُفرض عليهم العمل مع سجّانيهم في معسكرات الإبادة، أثناء تحضير المعتقلين للمحرقة)، وكلامٍ يسمعه حينها، "ويظنّ أنّه حقيقيّ"، كما في تعليقٍ عنه.
في حوارٍ معه، منشور في "دفاتر السينما" (ديسمبر/ كانون الأول 2020)، يتحدّث فيرّارا عن الكتاب وكاتبه بحماسةٍ ولهفةٍ ومرارة. يقول إنّ نيسلي "مُضطرّ إلى مُشاركة الطبيب الشنيع (هناك ترجمات عربيّة مختلفة للمفردة الفرنسية Horrible، تصف كلّها، بحقٍّ ومن دون شكّ، فظائع الارتكابات النازيّة باليهود والأقليات) مِنغِلي في تجاربه الطبية الزائفة في المعسكرات". يُضيف أنّ الكتاب "قويٌ جداً"، وأنّه يشعر بأنّ نقله إلى الشاشة "واجبٌ عليّ".
المعتقلات النازية وارتكابات النازيين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وأثناءها تحتوي على مقوّمات هائلة وكثيرة، تُتيح دائماً إنجاز أفلامٍ وكتابة روايات وتحقيق أعمالٍ مختلفة، وإنْ بعد مرور 75 عاماً على انتهائها. الذاكرة مليئة بوقائع وحكايات. هناك أكثر من جيلٍ يستعيد بعضها، المنتقل إليه بفضل مرويّات شفهية أو كتاباتٍ تُنْبَش بين حينٍ وآخر من غفلة الزمن. الماضي ثقيل. الجريمة حاضرة في وعي، لن يتردّد في استغلالها لأغراضٍ معروفة. الهيام بتلك الفترة مُثير لتساؤل عن مغزى التنقيب الدائم في أرشيفٍ، يبدو كأنّه لن ينضب من تلك الحكايات.
رغم قذارة الجريمة النازية، فإنّ التساؤل مشروعٌ، مع الابتعاد المطلق عن البديهيّ القائل بجُرمٍ نازيّ كريهٍ: أتُصنع حكايات ومذكّرات، تنبثق تفاصيلها "المتخيّلة" من وقائع الجُرم غير المُغتفر؟ لا إنكار للمحرقة، بل تساؤل عن هذا الكمّ الهائل من الحكايات، وبعضها يظهر هنا وهناك بعد حينٍ أو أكثر. التذكير بالمحرقة وبالجرم النازيّ مسألة أخلاقية. انكباب غربيين كثيرين عليهما حماسةٌ شخصية أو محاولة تكفير عن ذنب تاريخي يُراد له الاستمرار في الوعي الغربيّ، الذي يتحمّل إثم اضطهاد اليهود أكثر من غيرهم، منذ سنين كثيرة قبل ولادة النازية. لكن الإمعان في نبش تاريخٍ معروفٍ وماثلٍ في الوجدان والعقل البشريين والإنسانيين، إلى اليوم، يُثير تساؤلاً عن مدى "مصداقية" المُكتَشَف (أو بعضه على الأقل) غير المُتَدَاول بوفرةٍ في فترات سابقة، وإنْ يكن حضوره معروفاً.
كلّ قصّةٍ، مروية عن حالةٍ أو فردٍ أو مسألة أو انفعالٍ حاصلة كلّها في هذه الحرب وتلك المعتقلات، تصلح لفيلمٍ أو رواية أو عمل أدبي أو اشتغال فني. ذكريات تنتقل إلى أحفادٍ وأحفادٍ، وحكايات تُروى هنا وهناك، تتحوّل إلى أرشيفٍ يؤنِّب الوعي الغربيّ على جُرمٍ باقٍ في الذاكرة.
هذا يدفع إلى تكرار التساؤلات: أتكون هذه الذكريات والحكايات كلّها صحيحةٌ، فعلياً؟ أم أنّ مروّجيها "يظنّون أنّها حقيقية"؟ أهناك غير المكشوف عنه أيضاً، لا يزال مُخبّأً لسببٍ أو لآخر، ولم يحن وقت الكشف عنه بعد لسببٍ أو لآخر؟