يمثّل جوردان بيل (1973) وروبرت إيغرز (1983) وآري أستر (1986) أضلاع مثلّثٍ، اصطلح على تسميته بـ"تيّار الرعب الجديد"، الذي بعث الروح في جماليات هذا النوع المتطلّب، بفضل جانب بصري مُبتكَر للغاية، ومزج مُثيرٍ بين الأنواع، واشتغال على ثيمات وأبعاد سيكولوجية، تلامس هواجس العصر وأكثر مكبوتاته توغّلاً في اللاشعور الجماعي. توجّهٌ يترافق في الأفلام الأخيرة للثلاثي، بنزعةٍ ترنو إلى إحياء الفرجة السينمائية المتوجّهة إلى الجمهور العريض، من دون الركون إلى وصفات الـ"بلاكْباستر" الجاهز للأخذ، وطموح حقن راديكالية وقتامة في أوصال الماكينة الهوليوودية.
تتبدّى هذه النزعة، بوضوح، في الفيلم الطويل الثالث لبيل، "نوب (Nope)"، حيث تنصهر الأساطير، المُشكّلة لأنواع هوليوودية عريقة، في رؤية مؤلّف مهووس بجماليات الرعب، رغم تمرّسه واكتسابه الشهرة كممثل وكاتب مختصّ في الكوميديا، يتابع مساءلة الشرط الإنساني بطموح يكبر من فيلم إلى آخر. فبعد طرحه سؤال العنصرية الحارق، مُحيّناً جدلية الأعراق في المجتمع الأميركي، في باكورته Get Out عام 2017، عبر استعارة العبودية المُكرهة واستلاب الأرواح؛ قَارب، في رائعته Us، عام 2019، مسألة التعايش بين الطبقات المجتمعية، على خلفية ثيمة القرناء الشبحيين، مُستشرفاً بشكل مذهل شرخاً متأصّلاً في مجتمع بلد العم سام، كاد يفضي إلى حرب أهلية بداية عام 2021؛ بعد هذين الفيلمين، ينبري لفيلمٍ بموضوع أكثر كونية، تكمن علاقة الإنسان الإشكالية بالفرجة في قلب طرحه الجمالي والسّردي.
يفارق أوتيس هايْوُد الحياة في ظروفٍ غامضة، إثر إصابته في الرأس، بعد تساقط أشياء حادّة من السماء على مزرعة العائلة. يحاول وريثاه أوتيس جونيور (دانيال كُلُوَا) وأخته إمرالد (كيكي بالمر) الحفاظ على السير العادي لشركة عائلتهما، العريقة في ترويض الخيول لفائدة استوديوهات تصوير الأفلام، في منطقة "آغوا دولتشي" في كاليفورنيا. بعد 6 أشهر على وفاة الأب، يُلاحظ أوتيس جونيور سلسلة أحداثٍ غريبة (اضطراب التيار الكهربائي، فرار الخيول... إلخ) في محيط المزرعة، ويكتشف رفقة أخته جسماً غريباً على شكل طبق طائر، وحركةً غير اعتيادية في الملهى الترفيهي "جوبِتر كليم"، القريب من المزرعة، لصاحبه ريكي "جوب" بارك (ستيفن يون)، صديقهما الذي عُرف بأدوار صغيرة مثّلها في طفولته، خاصة بخروجه سالماً من دوره في سيتكوم "منزل غوردي"، الذي اشتهر مأسوياً بحادثة أدّت إلى وفاة أحد الممثلين، وإصابات بليغة لدى آخرين، بعد اهتياج مفاجئ لشامبانزي، يُستَغلّ في التصوير، هاجمهم بشراسة.
"سأطرح عليك قذارةً بذيئة. سأهينك، وأجعل منك عبرةً/فرجةً". تقول العبارة التقديمية للفيلم، المستقاة من سفر "ناحوم"، مُجسّدةً عبر لهجة الوعيد والازدواجية الكامنة في مفردة "سبكتاكل"، الحمّالة لمعنيي العبرة والفرجة، اللّعنة الكامنة في علاقة الإنسان بصورة العالم، حين يسحره طقس الفرجة، فينجذب إلى أضواء الفضول، حتى لو اقتضى الأمر أنْ يتنازل عن خصائل تقع في عمق إنسانيته، كالتعاطف والترفع عن التلصّص.
سعياً إلى الشهرة والمال، يجهد الأخوان هايْوُد في توثيق ظهور الجسم الغامض على كاميرات مراقبة. لكنْ، بسبب اضطرابات التيار الكهربائي وظواهر أخرى غريبة، تفشل محاولاتهما، فيلجآن إلى خدماتِ تقنيٍّ يُدعى أنجل تورّيس (براندن بِريا)، يعمل في متجر تجهيزات إلكترونية، ويعرضان على مدير التصوير المخضرم آنتلرز هوست (مايكل وينكوت) التقاط صورة الجسم بكاميرا غير كهربائية.
يُفيد جوردان بيل، كالعادة، من تجربته في الكوميديا، لصوغ مواقف مفارقة في نبرتها، يتناوب إيقاعها بين لحظات توتّر مشدود، وترقّب يحبس الأنفاس، تليها هدنة ارتخاء، يتصاعد فيها منسوب التوتّر تدريجياً، مجدّداً. تحوّلٌ يتيح القبض على اختلال اليومي الاعتيادي، وتسلّل الفانتازي والمرعب، المتجسّد هنا في ظاهرة الجسم الغريب، التي يقاربها بلا شكّ، امتداداً لنسق أفلام هوليوودية مشهورة، كـ"لقاءات من الصنف الثالث" (1977) و"حرب العوالم" (2005) لستيفن سبيلبرغ، و"إشارات" (2002) لأم. نايت شامالان، وهما من أبرز من أثّروا في أسلوبه. لكنّه يحرص، في الوقت نفسه، على تفرّدٍ وانخراطٍ في مشروع جمالي، أسّس له في فيلميه السابقين، قوامه ثيمة الحيوانية التي تطبع نظرته للشخصيات/الكائنات المناوئة، كما تعبّر عنها تفاصيل تحذير أوتيس جونيور من النظر مباشرة في عيني الكائن الفضائي، ومواجهته التي تتّخذ شكل ترويض الأحصنة الجامحة، ومقاربة تصرّفاته كأيّ حيوانٍ أرضي، يسعى إلى حماية منطقته، وافتراس كلّ ما يسير عليها.
بعد تجمّع البِيض ـ مصّاصي الأرواح مع منتج أرضي هادئ، في Get Out، ثمّ صعود القرناء العدوانيين من تحت الأرض، في Us، ترفع شخصيات Nope نظرتها إلى الأعلى، لمواجهة عدوٍّ أشرس وأغرب، يُحيل هذه المرّة إلى لاوعي جماعي مُثقل بمُركّب الشعور بالذنب من نزعة الانصياع للفرجة السهلة، إلى درجة عقد اتفاق فاوستي مع شيطان الاستعراض، المُهين والمبتذل. تفاصيل عدّة يبثّها المخرج ـ كاتب السيناريو تدعم هذه القراءة، منها مشهد إخراج الكائن الفضائي فكّيه، الذي ينطوي على إشارة مزدوجة تحاكي شكل الكاميرا (أداة "جريمة" التقاط كلّ أشكال الاستعراض)، وتُحيي أحد أكثر مشاهد المغامرة والفانتازيا ترسّخاً في الذاكرة السينفيلية، حين أفصح الوحش المفترس عن فكّه المقزّز في تحفة جون مكتيرنان "المفترس (Predator)"، المنجزة عام 1987. كما يتوجّه أرنولد شوارزنيغر إلى فريق الكوماندوس المُرافق له بالعبارة المشهورة: "ما دام ينزف، نستطيع قتله"، عند رؤية آثار الدماء الفوسفورية للوحش على أوراق الأشجار.
يُفصح أوتيس جونيور عن خطّته للإجهاز على الكائن المعتدي، عند اكتشاف الأشياء غير العضوية، التي يلفظها بعد "هضم وجبته" (إحدى بصمات أسلوب المخرج، المتمثّلة في لقطات مؤثّرة بصرياً بحدّ ذاتها، لكنّها تُخبر في الوقت نفسه عن تفصيل سردي أساسي للحبكة)، قائلاً: "إن كان يجوع، فبوسعنا أنْ نجهز عليه".
يُقدِّم جوردان بيل، في حوار معه، مثلاً مُلهماً عن المعضلة الراسخة في علاقتنا مع الفرجة، بحوادث السير التي تقع وسط الطريق، فيختلّ سير المركبات، وينزعج السائقون. رغم ذلك، ما إنْ يصل هؤلاء إلى مكان الحادثة، حتى يوقفوا سيّاراتهم تباعاً، ويُمعنون النظر في تفاصيل الحادث، في استسلام تامّ لوازع التلصص المرضي، مُتسبّبين في تشكيل صفّ انتظار طويل وراءهم. كأنّ الفرجة تمتلك سلطة خفيّةً لا يملك الإنسان مقاومتها، تُعطّل ملكاته وتُبْطِل تقدّمه إلى الأمام.
استعارةٌ تفصح عن فحوى النص، المخبأ في ثنايا فيلمٍ بديعٍ، رسّخ مكانة جوردان بيل كأحد أبرع المخرجين المتخصّصين في سينما النوع اليوم، وأضاف لبنةً أخرى لصرح سينمائي شاهق، رغم أنّه لا يتجاوز 3 عناوين، لا يتورّع عن سبر غور اللاوعي البشري، فتستوطنه كائنات مفزعة، ليست في آخر المطاف سوى مرايا تعكس الشر المتأصّل في شخصياته الرئيسية، والوبال الوخيم، القابع في الإنسان المعاصر، بانتظار الظروف المؤاتية لخروجه إلى الوجود.