"مورينا"... الجمال والعنف في عزلتهما على الشاطئ

15 فبراير 2022
الروائي الطويل الأول للمخرجة أنتونيتا ألامات كوسيجانوفيتش (Imdb)
+ الخط -

لا تبدو عزلة المكان فكرةً جديدة في السينما، ولا عزلة الأشخاص أيضاً؛ إنّها الدَّلالة المعروفة للجميع. الشخص الذي ينظر من النافذة، أو يجلس وحيداً، وتلك اللّقطة التي تضيق وتتأطّرُ بشخصية مُفردة. بهذا، كيفَ يُمكن تحويل العزلة، التي هي جزء جوهريّ داخلنا نحن البشر، إلى فكرة حيويّة في سبيل إنتاج عمل سينمائيّ؟ خاصة مع تسابُق المخرجين اليومَ، في ظل وباء كوفيد 19، إلى الاستثمار في عزلتنا المنزلية.
عبر هذه المقاربة، يمكنُ الدّخول إلى عالم فيلم "مورينا" (Murina)، الذي آثرَت فيه المخرجة الشابة أنتونيتا ألامات كوسيجانوفيتش تصويرَ جزيرة ما من وباء ظاهر فيها.. جزيرة تبدو جنّةً للسُّياح، بيد أنّها تحمل في شخصيات مقيميها تنافُراً باطنيّاً، وذكريات وطموحات أنانيّة عنيفة.
تغوصُ المخرجة أكثر في فكرة الوحدة والأعماق، إنّه أسلوبها الذي اتبعته سابقاً في فيلمها القصير Into The Blue، الحاصل على جائزة مهرجان برلين (2017). ورغم أن "مورينا" عملها الروائي الطويل الأول، ولكنّ مقامرة المخرج السينمائي الشهير مارتن سكورسيزي في إنتاجِه هيّأت للفيلم حصدَ جائزة "الكاميرا الذهبية" في مهرجان كانّ (2021)، وبه يرتفعُ رصيدُ المخرجة إلى خمسة أفلام قصيرة، وفيلم طويل واحد.


يروي "مورينا"، بشكل رئيس، قصة يوليا المراهقة المتمرّدة ذات الـ16 عاماً، التي تعيش مع أمها نيلا (Danica Curcic)، وأبيها آنتي (Leon Lucev)، على شاطئ البحر الأدرياتيكي، الذي سرعانَ ما سيصير بعد اللقطة الافتتاحيّة مباشرةً، أحد الشخصيّات الرئيسة. ثمّ تتداخل اللّقطات ما بين مزاج يوليا المتقلّب، والمدّ الذي يرتطم بالشواطئ القاسية، فينشأُ إحساس متقلقلٌ من عدم التعاطف يتصاعدُ حتى نهاية الفيلم، ويتعاظمُ طرداً مع الانتظار القَلِق لمجيء صديق العائلة القديم خافيير (Cliff Curtis)، عندها تكشف المخرجة ببراعة عن أنانيّة الشّخصيات، فالأبُ ينتظرُ صفقة البيع، والأم ترنو إلى ماضيها الرومانسي مع الضيف، والمراهقة تُضغَطُ بقلقها الوجودي.
يُصعّد الأب المتسلط المواقف بشكل دائم ومحرج ليوليا وللأم، فهو يريد بيع منزله للانتقال إلى مدينة أخرى. إنّها طموحاتُ الإثراء السريع من خلال بيع ما ورث. أمّا الأم فإنّها تبحث عن السلام من خلال الخضوع الأبوي، مثلها كمثل جيل من النساء الكرواتيات اللواتي تزوجن باكراً، وتعايشن مع إحباطاتهن اليومية. هنا، يختلط تقييم الأم عند المُشاهِد في لحظات تصرّفها خارج المتوقّع، إن كانت أماً أو صديقة أو ابنة لابنتها!
لكن ماذا عن الضّيف؟ يبدو خافيير شخصية غير موفّقة في الفيلم، يمثل في البداية مزيجاً ما بين حبيب محفّز للاستكشاف الجنسي، أو أبٍ محتمل بالنسبة إلى يوليا، ليتوضّح لاحقاً أنه مجرّد مَهرَبٍ لا أكثر لجيل من النساء يردْن أن يستكشفن العالم، كما يشير إلى الفرص الضائعة لجيل الأم والأب الشوفينيين، حسبَ المخرجة.

بالعودة إلى إطار الفيلم المكاني، نجد أنّ الجزيرة قد شكّلت بيئة ملائمة لتركيب مشاعر الشّخصيات؛ فعلى سبيل المثال، لم تظهر يوليا في حالة من الشكوى والبوح عن المشاعر، إنّما تسرّب ذلك من تصرفات الممثلين اللاإرادية، وعبر حوارات طارئة غير متوقّعة. يصحُّ القول إنّ البيئة بعينها لا تُنتج عنفاً، ولا حاجة للفقر، أو للقطات معتمة رمادية بكاميرا تطحن ضحاياها من عَلٍ، فالعنف قد يوجد في أسرة تقطن على جزيرة ذات طبيعة خلابة، أو على شاطئ أزرق، لكن لا أحد يضمن مقدار العنف الذي ينطوي عليه هذا الجمال الطبيعي، عنفٌ يتضاعف كلما غاصت البطلة يوليا في القاع، وازدادَت قسوة الأب.
يمتلئ الفيلم باستعارات عضوية خفيفة، لا تُشعرُ المتابع بالتعقيد أو الغرابة، أهمّها العنوان (Murina)، تلكَ السمكة العظمية، هي نوع منفرد وخطير قد تقتل في بعض الأحيان، وهي في الوقتِ عينه غذاء العائلة الرئيس، كما أنّها تعكسُ الحالة القلقة ليوليا التي تتبعها في النّهاية للخروج من سجنها، نحو عالم البالغين، لتتنبه بشكل واعٍ لأب بطريركي قاسٍ، ورجل جميل وثري يختفي قبل أن يفي بوعوده، فلا يبقى لها خيارٌ سوى ارتداء بدلة السباحة، التي قضت المخرجة عاماً كاملاً في تصميمها، وأن تعود إلى قاع البحر حيث تدخل إلى عالمها الخاص متحرّرة مما ذُكر.

نجحت المخرجة في إيصال رؤيتها، رغم صعوبة التصوير تحت الماء، ولم تفلت منها لقطة واحدة إلا ووظفتها درامياً، مستعينةً بمونتاج محترف خلقَ دلالات وأبعاد الفيلم. لتختمَ الفيلم بلقطة معاكسةٍ للقطة البداية، وأغنية تشير إلى أمنية العودة إلى سن الـ16. هنا، يتبادر إلى ذهننا سؤالٌ إشكاليٌّ: كيف لجيل فتيات كرواتيات ألا يَكنَّ شوفينيات أو خاضعات، وهنّ لم يستطعنَ إلى هارفرد سبيلا؟ وهل هارفرد/ أميركا، حيثُ ترعرعت المخرجة، هي الحلّ الجذري للتحرُّر؟ أم أنّ الأحلامَ تموتُ في الجنة... كما أشار خافيير؟

المساهمون