خلال الفترة الماضية ارتفع بشكل مكثّف سيف "معاداة السامية" في وجه منتقدي دولة الاحتلال الإسرائيلي. وهو ما بدا طبيعياً بعد سنوات من السعي الإسرائيلي للربط بين هذه التهمة وبين انتقادها ككيان محتل. هذا الأسبوع، عاد الجدل إلى الواجهة مع معاقبة شبكة "دويتشه فيله" الألمانية صحافيين وصحافيات عرباً بسبب آراء تتعلق بالقضية الفلسطينية أو بدولة الاحتلال الإسرائيلي.
في برلين، يؤكد لـ"العربي الجديد" الصحافي الفلسطيني، فايز جرباوي، أن ما يجري في "دويتشه فيله" ليس بعيدًا عن "حملة منسقة متواصلة لتجريم أنشطة إعلامية متضامنة مع الشعب الفلسطيني". ويشير جرباوي إلى أن الاستهداف لصحافيي الشبكة الألمانية "جاء بتحريض من صحافيين مؤيدين لدولة الاحتلال".
في كل الأحوال، فإن فصل صحافيي "دويتشه فيله" يأتي في سياق متكامل من التصويب السياسي، والإعلامي، والفني، والثقافي وحتى الرياضي، على شخصيات عامة أو تلك التي تتمتع بحيثية جماهيرية معيّنة، لمجرد التعبير عن تضامنها مع الفلسطينيين في وجه الممارسات الإسرائيلية. إذ قبل صرف الموظفين الخمسة من الشبكة الألمانية، كانت محاكم تفتيش تنصب في وجه أصحاب الرأي المنتقد للاحتلال خصوصاً في عالم الإعلام "في محاولة عنيفة للجم التعبير الصريح عن الرأي، أو تبني مواقف منظمات دولية حقوقية، مثل وصف منظمة العفو الدولية للاحتلال بأنه دولة فصل عنصري"، كما يقول الصحافي في هامبورغ أحمد خطاب لـ"العربي الجديد".
صحيح أن لألمانيا حساسيتها الخاصة حيال اليهود بصفة عامة، وذلك يستند إلى تاريخ الحقبة النازية وجرائمها، ولكن، بين الحساسية التي تقوم على شعار "لن يتكرر أبداً" (أي نظام فاشي آخر) وبين إسكات الأصوات المنتقدة للاحتلال، فارق كبير، لا يراه على ما يبدو محرضون ووشاة في عالم الصحافة.
ويصف صحافيون عرب تحدثوا إلى "العربي الجديد" من ألمانيا، التحريض الواقع منذ فترة على عدد من العاملين في الإعلام "ومن بينهم بالمناسبة صحافيون ألمان، في مؤسسات مرموقة، إذ يتعرضون لما يشبه فرض أمر واقع بالاعتراف بدولة الاحتلال، تحت مسمى الدولة اليهودية، وعدم إثارة أي موقف ينتقدها، أو يقترب حتى من نزع شرعية احتلالها في القدس والضفة"، بحسب ما يقول أحدهم.
لكن من المهم التذكير بأن هذه الممارسات التي باتت في العالم أجمع بفضل مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، كانت هي نفسها تتكرّر في العقود السابقة، حيث لوحق في الثمانينيات صحافيون أوروبيون انتقدوا الاحتلال بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتنفيذ مذبحة صبرا وشاتيلا.
من ألمانيا إلى بريطانيا والولايات المتحدة، لا يبدو الوضع أكثر تفاؤلاً، فالعام الماضي مثلاً فصل الصحافي ناثان جاي روبنسون، في عمله في المكتب الأميركي من صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، وذلك إثر نشر "نكتة" عن المساعدات المالية العسكرية الأميركية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وقد كتب وقتها مقالاً مطولاً عبر موقع Current Affairs، يروي فيه الضغوطات التي تعرّضت لها الصحيفة البريطانية لطرده.
وما قاله روبنسون، تؤيده تقارير دولية وحقوقية عدة. وقد رصد الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ACLU) عام 2018 نمطًا يتم بموجبه "إسكات أولئك الذين يسعون إلى الاحتجاج أو المقاطعة أو انتقاد الحكومة الإسرائيلية بطريقة أخرى"، وهو اتجاه "يتجلى في حرم الجامعات، وفي عقود الدولة، وحتى في مشاريع قوانين لتغيير القانون الجنائي الفيدرالي". وأشار الاتحاد إلى قمع يطاول الرواية السياسية الفلسطينية. أما مركز الحقوق الدستورية الأميركي، فأكد عام 2015 أن "منظمات المناصرة والجامعات والجهات الحكومية والمؤسسات الأخرى الداعمة لإسرائيل استهدفت الناشطين المؤيدين للفلسطينيين بعدد من التكتيكات، بما في ذلك إلغاء نشاطات، أو رفع دعاوى قضائية لا أساس قانونيا لها، أو الإقالة، أو توزيع الاتهامات العشوائية بالإرهاب ومعاداة السامية.
يطاول اتهام معاداة السامية حتى اليهود الذين يضيق عليهم الخناق خلال الأسابيع الأخيرة، لقمع رأيهم، ومن بينهم الناشط من أصل يهودي والمعادي للصهيونية، موشيه ماشوفر (85 عاما)، الذي يعتبر التهمة "مثيرة للسخرية". مشاركة ماشوفر في فعاليات المقاطعة الثقافية والفنية للاحتلال تعرضه وغيره من اليهود، للهجوم، من إسكندنافيا إلى أميركا ضمن "الشبكة اليهودية العالمية المعادية للصهيونية"، وهو ما يشير صراحة إلى أن الهدف من قمع الصحافة وتقييد حرية التعبير يتعلق بالأساس بمخاوف تراكم وتوسع حركة المقاطعة، ونفاذها إلى قطاعات حساسة على مستوى الرأي العام.