يرسم عمر نعيم، في فيلمه الوثائقي الجديد "مدينتان" (2021، 60 دقيقة)، مشهداً، تختلط فيه أمور عدّة في بلدٍ منهار. أمكنة وذكريات ومسارات ومطبّات، ومحاولات دائمة لنهوضٍ يواجه خراباً وموتاً. المسرح أساسيّ، ولحكاية "مسرح المدينة" تحديداً، من منطقة كليمنصو إلى شارع الحمرا في بيروت (كيلومترات قليلة تفصل بينهما)، حيّز أكبر، تتجوّل فيه نضال الأشقر لتروي شيئاً من سيرة مسرح وثقافة ومدينة وتاريخٍ، يُرافقها فؤاد نعيم، سارداً معها ذكرياتٍ وانفعالات، ويبوح آخرون بشعورٍ لهم إزاء المسرح والمدينة أيضاً.
الاحتفال بذكرى مرور 20 عاماً على تأسيس "مسرح المدينة"، في صالة "سينما كليمنصو"، إحدى أشهر صالات السينما قبل اشتعال الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، دافعٌ إلى مواكبة لحظاتٍ أساسية في بلدٍ، يتخبّط في أهوالٍ وفسادٍ وعفن. انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية يتعثّر في عامين اثنين، قبل تحقّقه عام 2016. كارثة تتوزّع على السياسي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي. "الخدمات العامة تكاد تكون منعدمة"، يكتب عمر نعيم في بداية "مدينتان" (يُعرض في "مسرح المدينة"، شارع الحمرا، بيروت، في 23 و24 إبريل/نيسان 2022). هذا يصنع "جوّاً مشحوناً ومضطرباً" لن يحول دون تحضيرات مكثّفة للاحتفال بتلك الذكرى، في "مسرح المدينة"، أي "سينما سارولا" سابقاً، المُشاركة فعلياً في كتابة فصلٍ من تاريخ مدينة وفنّ وثقافة وشارع وحياة.
بسلاسة وهدوء وبساطة، يواكب عمر نعيم التحضيرات، لـ"إقامة مهرجان يتضمّن أعمالاً مسرحية جديدة"، بمشاركة 100 ممثل، و50 كاتباً ومخرجاً، وعشرات التقنيين العاملين أشهراً عدّة "تحضيراً لهذا الحدث". تحديداتٌ توضح أنّ "مدينتان" معنيٌّ ببلدٍ غارقٍ في خرابه وانكساره، وبمسرح واشتغال وقول. لقطات متكرّرة لأكثر من عملية فاشلة لانتخاب رئيس للجمهورية، وأخرى تنقل انتشار النفايات في أمكنة مختلفة، وكلامٌ لنضال الأشقر وفؤاد نعيم يعود إلى زمنٍ بيروتيّ مُشعٍّ، في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، ومنقرض حالياً، وإلى راهنٍ مُثقل بأسئلة ومخاوف وتحدّيات. خبريات عن تأسيس المسرح، وعن مواجهة انفضاض سلطة ونظام عن ثقافة وفنون، وعن اشتغالات سابقة وراهنة، وعن علاقة بالمدينة والمسرح.
لآخرين كلامٌ يستعيد زمناً، أو يروي راهناً. تحضيرات فؤاد نعيم، المتعلّقة بـ"الملك يموت" لأوجين يونسكو (التي تُعرض في الاحتفال نفسه)، جزءٌ من روايته مقتطفاتٍ من سيرة فرد وفنان وإعلامي، وهذا كلّه مُختَصرٌ وصائبٌ. الحميميّ بين عمر نعيم ووالديه، نضال الأشقر وفؤاد نعيم، قليلٌ، رغم أنّ الفيلم برمّته حميميّ، لكونه مرآة تعكس شذرات من حكاية عائلة متورّطة بالثقافة والفنون والمدينة. إلى العائلة، هناك روجيه عساف وجورج خبّاز وربيع مروّة ولينا خوري وهشام جابر وجنيد سريّ الدين وناجي صوراتي وكريم دكروب، وهؤلاء جميعاً يروون شيئاً منهم ومن "مسرح المدينة" وذاكرة بيروت، وأشياء مختلفة. هناك أيضاً محمد فرحات (مدير فني) ولؤي رمضان (مدير)، العاملان في "مسرح المدينة" منذ أعوامٍ مديدة.
بين قولٍ فرديّ وسيرة جماعية، يلتقط عمر نعيم ملامح مدينةٍ غارقة في بؤسها، مسترجعاً، في الوقت نفسه، فصلاً رائعاً من حكايتها. حماسة المتحدّثين أمام الكاميرا، إزاء مسرحٍ ومدينةٍ واشتغالات وتطلّعات، غير منفضّة كلّياً عن إحساس بواقع، والتزامٍ بمهنةٍ. البساطة في التصوير (طلال خوري) والمونتاج (زينة أبو الحسن وعمر نعيم) غير لاغيةٍ أهمية المروي والمكشوف بكلمات وصُور. إعلانُ أعوامٍ شاهدةٍ على إغلاق مسارح في بيروت قاسٍ، رغم بساطته المطلقة (تصوير واجهة مغلقة مع اسم مكتوبٍ على لافتة): "مسرح بابل" (2016)، "مسرح استرال" (2005)، "مسرح بيروت" (2011)، "مسرح البيكاديللي" (2000).
"مدينتان" فيلمٌ عن أناسٍ ومدينة ومسرح، بلغة بصرية هادئة وكاشفة.