برؤية فنية إنسانية، سبقت كلّ حديث عن التعزيزات العسكرية الروسية المُكثّفة على الحدود واشتعال "مُحتَمَل" حينها للحرب مجدّداً في "دونباس" (شرق أوكرانيا)، التي اندلعت في 24 فبراير/شباط 2022، عُرض "كلوندايك"، للأوكرانية مارينا إر غورباتش (1981)، في الدورة الـ38 (20 ـ 30 يناير/كانون الثاني 2022) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي الدولي"، حيث فاز بجائزة الإخراج. الفيلم غير مُسيَّس أو مُنحاز، ولا يتناول الحرب بطريقة فجّة أو صارخة، بل يروي قصة مروّعة عن العنف والدمار والموت، بسبب حربٍ لا دخل لأفراد بسطاء فيها.
في 17 يوليو/تموز 2014، أُسقِطَت طائرة لـ"الخطوط الجوية الماليزية" (رحلة رقم 17، بين أمستردام وكوالالمبور) فوق "دونباس"، فقُتل 298 راكباً، وجميع أفراد الطاقم، بينهم 100 من كبار علماء فقدان المناعة، إلى بوب لينغ، الخبير الهولندي في الإيدز، ورئيس "الجمعية الدولية للإيدز"، وغلين توماس، الناطق باسم "منظمة الصحة العالمية" آنذاك. اللافت للاهتمام أنّ الفيلم تجنَّب ذكر المسألة، والغريب أنّ هذا العدد الكبير من العلماء البارزين لم يُثِر انتباه أو شَكّ أحدٍ. مع ذلك، وفّرت الكارثة خلفيةً، غَذّت أحداث "كلوندايك"، ووظّفتها المخرجة، كاتبة السيناريو أيضاً، من دون افتعال، رغم أنّ هذا الخيط غير محوري، ولا يشكّل فرقاً درامياً في السياق الرئيسي للأحداث. ولو حُذف، لن يفقد الفيلم الكثير من جماله وإنسانيته.
في المشهد الافتتاحي، يتعرّض بيت ريفي على الحدود، يسكنه توليك (سيرغي شادْرِن) وزوجته إرْكا (أوكسانا تشيركاشينا)، لقذائف الهاون. دُمِّر جداره الخارجي، فانكشف على الوادي الفسيح، وامتلأ أثاث حُجراته بالحطام والغبار. "بطريق الخطأ"، كما زعم سانيا (أولِغ شيفتشوك)، أحد الانفصاليين المحليين المناهضين لأوكرانيا، وصديق توليك، من دون أي اعتذار، لكنْ مع وعدٍ واهٍ بإصلاح البيت. هذا فاقم رغبة توليك في الابتعاد والمغادرة، بأسرع وقتٍ ممكن، لا سيما أنّه وزوجته ينتظران ولادة جنينٍ في أيّ لحظة. بعد ذلك، سقطت الطائرة في مكان غير بعيد عن مزرعتهما، إذْ ظهر موقع تحطّم الطائرة في الأفق بدخان أسود كثيف، وبنصف جناح من الطائرة في المزرعة نفسها.
تستاء إرْكا من فكرة اضطرارها لمغادرة منزلها بسبب قتال الرجال. تمضي ـ بعنادٍ وتحدٍّ ـ في خلق حياة عادية، تُحافظ عليها قدر الإمكان: تُواصل اهتمامها بالخضروات، وتحلُب البقرة الوحيدة المُنهكة. تحاول تنظيف حجرة المعيشة المُدمَّرة، وتصنع صلصة البندورة بهمَّة ونشاط. لكنها تغتاظ من أفعال زوجها، المُنصاع تماماً للانفصاليين، أو "القوات الغازية"، خوفاً على حياتهما. من ناحية أخرى، يحاول شقيق إرْكا، ياريك (أولغ تشيربينا)، المتخرّج من الجامعة حديثاً، والعائد لتوّه من كييف، والمؤيد لأوكرانيا، إجبارها على المغادرة، وهجر زوجها، لأنّه بنظره انفصاليّ خائن.
لا ينتمي توليك إلى العقلية الانفصالية، فهو غير مسيّس وغير منحاز، تقريباً. يريد، كما إرْكا، أنْ يُتركا لوحدهما. إرْكا، كشقيقها الأصغر المتقلّب، مؤيدة لأوكرانيا بإخلاص. بينما يُدين الشقيقُ الزوجَ باعتباره حثالة انفصالية، يحاول الزوجُ اللعبَ مع الجميع لنيل الرضى والحماية المحلية، لا بسبب انتهازيةٍ منه. موقفه الوسطي يُصبح غير مقبول، مع غزو الجنود أرضهم. لكنّه لا يستطيع فعل شيءٍ.
في "كلوندايك"، لا تُظهر غورباتش أنّ افتقار إرْكا وتوليك للانحياز يستحق الثناء أو الإدانة، إذ تُقدّمهما كنموذج للبسطاء الذين يتعرّضون للأذى والضغط والتشتّت، في صراعٍ أكبر منهم بين دول وأحزاب وفصائل سياسية. لذا، تُقدّم حرباً زوجية وعائلية مُصغّرة وملتهبة على الحدود، تُضاف إلى الحرب السياسية، من دون تلاعب أو ميلودراما لا داعي لها. التوتّر الزوجي يتصاعد مع اقتراب الحرب، كما يبرز تأثير الخوف من الحياة والموت.
يرتكز "كلوندايك" على الأداء المُقنع لأوكسانا تشيركاشينا، علماً أنّ إرْكا باتت في الأيام الأخيرة لحملها. ضعفها يُصبح قوّة، تمدّها بعزيمة الصمود، مع أنّ جيرانها القرويات هربن بسبب الاشتباكات. تواجه كرباً وصدمة في كلّ مشهد تقريباً، لكنّها تمضي مُحوِّلةً مقاومتها السلمية إلى شيءٍ شرس. تشاهد عالمها ينهار حولها، لكنّها تخلق جوّاً من اليأس المأساوي والأمل معاً. تريد إبقاء عالمها قطعة واحدة، لكنْ ما يجري أكبر بكثير من قوّة وعناد امرأة واحدة على الحدود، ما يدفع إلى التساؤل عن جدوى فعلتها، خاصة في ظلّ النهاية الوحشية، المذهلة والمفاجئة، التي انتهت إليها الأمور، وإنْ كانت الخاتمة عادية ومتوَقّعة، إلى حدّ ما.
تواجه مارينا إر غورباتش الاضطرابات الشخصية والسياسية بكاميرا هادئة وثابتة، غالباً. مَشاهد كثيرة مُصوّرة في لقطات طويلة متواصلة، بحركة عرضية للكاميرا، أو بلقطات محورية طويلة، مع مسح بانورامي يتدرّج من اليمين إلى اليسار، أو بالعكس. كذلك، يُلاحظ ثبات الكاميرا مع تحرّك الشخصيات في المساحة المرئية، أو خارج الشاشة، على مبعدةٍ، وأحياناً على مسافة متوسّطة، حيث تتابع الكاميرا وتُراقب.
لأنّ غورباتش مونتيرة الفيلم أيضاً، تؤطّر المَشاهد عبر زوايا عريضة وواسعة، في نوعٍ من المونتاج الداخلي، وتمزج ـ بفنّية ملحوظة ـ بين اللقطات القريبة والبعيدة، لكشف النطاق الكامل للمأساة، بسرعات متفاوتة، مع الاستعانة دائماً بلقطات بانورامية بطيئة.
كثرة استخدام اللقطات المتّصلة وغير المنقطعة، بواسطة المونتاج، تُبرز النطاق الكامل للمأساة بسرعات متفاوتة أيضاً، وبتوترات متزايدة. مع تصاعد العنف، تُصبح الصُوَر أكثر تعقيداً، ناقلةً تطوّر الموقف الكئيب. ورغم أنّ معظم العدوان غير مرئي، إذْ يقع خارج الشاشة، يُلمَس تأثيره على الزوجين، بفضل تصوير سْفياتوسْلاف بولاكوفسكي، وتركيزه على الشخصيات في مقدّمة الكادر، وتوظيف الخلفيات لإظهار المنطقة وتوتراتها.
يُذكر أنّ غالبية أفلام الحرب في "دونباس"، منذ عام 2010، وثائقية قصيرة وطويلة، أو ريبورتاجات. منذ الروائي المتميّز "دونباس" (2018)، للأوكراني سيرغي لوزنيتسا ـ الذي لفت الأنظار إلى تلك المنطقة الملتهبة، والحاصل على جائزة أفضل إخراج في "نظرة ما"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ لم يبرز أي فيلم روائي أوكراني وغير أوكراني، عن هذه الأزمة، أو معاناة البشر، اجتماعياً واقتصادياً وصحّياً، في تلك المنطقة، التي تُشغل العالم الآن.