منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، تصوّر شركة "فيسبوك" نفسها كأنها قائدة معسكر "الأخيار" التي تبذل ما في وسعها لنصرة الشعوب المضطهدة أمام المحتلين، فأسست مركز عمليات خاصاً لمتابعة النزاع هناك، وأطلقت ميزة تمكن المستخدمين في أوكرانيا من إغلاق ملفاتهم الشخصية على موقعها ضماناً لأمنهم، ومنعت وسائل الإعلام الرسمية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدرّ عائدات على منصتها في أي مكان في العالم وحظرت صفحاتها في أوروبا، قبل أن تعلن أخيراً أنّها قررت استثناء الخطاب المناهض لـ"الغزاة الروس" في أوكرانيا من قواعدها المتعلقة بحظر المحتوى الذي يدعو إلى العنف والكراهية.
وأكدت "فيسبوك"، الخميس، قرارها هذا، موضحة أنّها لن تحذف المنشورات المعادية للجيش الروسي وقادته، وأنّها "سمحت مؤقتاً بأشكال من التعبير السياسي التي تنتهك في العادة القواعد المتعلقة بالخطاب العنيف، مثل كتابة: الموت للغزاة الروس". والجمعة، قال رئيس الشؤون العالمية في "فيسبوك" نيك كليغ، إنّ التغييرات هذه لن تسري إلّا في أوكرانيا نفسها، وإنّ الشركة "تركز على حماية حقوق الناس في التعبير عن الدفاع عن النفس، رداً على غزو عسكري لبلادهم" وإنّها "ليس لديها خلاف مع الشعب الروسي". لكنّ وكالة "رويترز" للأنباء، كانت قد أفادت بأنّ تحديث هذه القواعد لن يقتصر على أوكرانيا، بل سيشمل أرمينيا وأذربيجان وإستونيا وجورجيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وروسيا وسلوفاكيا وأوكرانيا.
قرار الشركة الأميركية "صدم" الكرملين بداية، فقال ديمتري بيسكوف الجمعة إنّ "من الصعب للغاية تصديق" تقرير "رويترز"، ثم أعلنت "لجنة التحقيق الروسية" فتح تحقيق جنائي "بسبب دعوات غير قانونية لقتل رعايا روس من قبل موظفين في الشركة الأميركية" وطلب مكتب المدعي العام الروسي تصنيف عملاق الإنترنت "متطرفاً" لينتهي اليوم بحظر "إنستغرام" أيضاً في البلاد، بعد حجب موقعي "فيسبوك" و"تويتر" الأسبوع الماضي رداً على "التمييز" بحق الإعلام الروسي.
للوهلة الأولى قد يبدو قرار شركة "فيسبوك" بريئاً، وإن كان متسقاً مع الإجراءات الأميركية والأوروبية بحق موسكو، وقد يخال قارئ بياناتها أن همها الوحيد توفير "منصة حرّة" للأوكرانيين الذين يريدون التصدي لمن غزوا بلدهم. لكنّ موقع "ذي إنترسبت" نشر تقريراً في 24 فبراير/شباط الماضي، أي في اليوم نفسه الذي بدأت فيه روسيا حربها على جارتها، قال فيه إنّ "فيسبوك" ستسمح مؤقتاً لمستخدميها الذين يصل عددهم إلى نحو 3 مليارات بـ "تمجيد" كتيبة "آزوف" وهي وحدة عسكرية أوكرانية يمينية قومية تتبنى أيديولوجية "النازيين الجدد". وكانت "فيسبوك" منعت سابقاً الحديث بحرية عن هذه الكتيبة، بموجب سياساتها المتعلقة بالأفراد والمنظمات الخطيرة.
ووفقاً لمستندات اطلع عليها "ذي إنترسبت" حينها، فإنّ "فيسبوك" ستسمح "بالثناء على كتيبة آزوف عند الإشادة صراحةً وحصرياً بدورها في الدفاع عن أوكرانيا، أو دورها كجزء من الحرس الوطني الأوكراني". شملت الأمثلة على الخطاب الذي أصبحت "فيسبوك" تراه مقبولاً: "متطوعو حركة آزوف أبطال حقيقيون، وهم دعم نحن في أمس الحاجة إليه"، و"نحن عرضة للهجوم. كانت كتيبة آزوف تدافع بشجاعة عن بلدتنا منذ 6 ساعات"، و"أعتقد أنّ آزوف تلعب دوراً وطنياً خلال هذه الأزمة".
نصت المستندات أيضاً على أنّ أعضاء كتيبة "آزوف" ما زالوا غير قادرين على استخدام منصات "فيسبوك" في أغراض التجنيد أو لنشر بياناتهم الخاصة، وأنّ زي الفوج واللافتات ما زالت ضمن قائمة صور رموز الكراهية المحظورة، حتى عندما يقاتل عناصر "آزوف" وهم يرتدونها ويعرضونها.
وفي اعتراف ضمني بأيديولوجيا الكتيبة، قدمت المستندات مثالين على المنشورات التي لن يسمح بها بموجب السياسة الجديدة: "غوبلز (جوزيف غوبلز وزير الدعاية في ألمانيا النازية) وفوهرر (لقب الزعيم النازي أدولف هتلر) وآزوف... كلها نماذج رائعة للتضحيات الوطنية والبطولة"، و"حسناً فعلت آزوف بحماية أوكرانيا وإرثها القومي الأبيض".
قائمة "فيسبوك" للمجموعات والأشخاص المحظورين التي نشرها "ذي إنترسبت" العام الماضي صنفت كتيبة "آزوف" إلى جانب تنظيم "داعش" الإرهابي والجماعة العنصرية اليمينية المتطرف "كو كلوكس كلان". وقد خلص تقرير صدر عام 2016 عن مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان إلى أن جنود "آزوف" اغتصبوا وعذبوا مدنيين خلال الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014.
وعلى الرغم من أنّ هذا التغيير من جانب "فيسبوك" قد يلقى ترحيباً من الذين يرون في سياساتها، وتحديداً تلك المتعلقة بالأفراد والمنظمات الخطرة، يمكن أن تخنق حرية التعبير على شبكة الإنترنت، إلا أنها تقدم دليلاً إضافياً على أن "فيسبوك" تحدد المسموحات والممنوعات بناء على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. خلال الصيف الماضي مثلاً، ذكر موقع "ماذربورد" أنّ "فيسبوك" سمحت لمستخدمي منصاتها في إيران بنشر شعارات "الموت لخامنئي" ــ المرشد الإيراني الأعلى ــ لمدة أسبوعين، وذلك تزامناً مع خروج تظاهرات في مناطق عدة في البلاد.
"فيسبوك" نفسها التي تبرر قراراتها الاستثنائية بمساندة الشعوب التي تقاوم القهر والاحتلال والاستبداد تعمل منذ سنوات، وعلى نحو وثيق، مع مسؤولين إسرائيليين لمواجهة "التحريض" عبر منصات التواصل. و"التحريض" طبعاً، بالنسبة لـ "فيسبوك" وحكومة الاحتلال، يشمل كلّ ما ينشره العرب عامة والفلسطينيون خاصة عن الانتهاكات الإسرائيلية من أسر وتعذيب وقصف وقتل.
في المقابل، يستخدم آلاف الإسرائيليين موقع "فيسبوك" في الدعوة إلى قتل الفلسطينيين؛ عندما قبض على جندي إسرائيلي لقتله فلسطينياً مصاباً عام 2015، استخدم جنود الاحتلال "فيسبوك" للإشادة بجريمته. المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم لم يوفروا منصات "فيسبوك" في الدعوة إلى قتل الفلسطينيين والبطش بهم، وبينهم إيليت شاكيد التي كانت سابقاً ضمن فريق حكومي إسرائيلي اجتمعت معه "فيسبوك"، وبنيامين نتانياهو وغيرهم. والعام الماضي، نظم المتطرفون الإسرائيليون أنفسهم عبر عشرات المجموعات في تطبيق المراسلة "واتساب"، المملوك لـ "فيسبوك"، تحت شعار "الموت للعرب"، قبل أن يشنوا عمليات اعتداء وحشية ضد فلسطينيي الداخل ويدمروا محال تجارية تعود لهم.
وقد أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، العام الماضي، أن عملاق التواصل الاجتماعي "أزال وقمع بشكل غير جائز محتوى نشره فلسطينيون ومناصروهم، يتضمن الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل وفلسطين خلال الأعمال العدائية في مايو/أيار 2021".
كان مستخدمو حسابات التواصل الاجتماعي ومنظمات الحقوق الرقمية أبلغوا عن مئات المنشورات المحذوفة، والحسابات المعلقة أو المقيّدة، والمجموعات المعطلة، وانخفاض مستوى المشاهدة، وانخفاض التفاعل مع المحتوى، ووسوم محظورة بينها "#الشيخ_جراح" و"#أنقذوا_الشيخ_جراح"، وسط مواجهة الهجمة الاستيطانية الشرسة ضد أهالي الحي المقدسي. كما أزالت "إنستغرام" منشورات بينها تلك التي تعيد نشر محتوى من مؤسسات إخبارية رئيسية. وكلّ ذلك تحت حجة سياسات الشركة التي تمنع "الكلام أو الرموز التي تحض على الكراهية".