"فرانس" برونو ديمون: عالم إعلامي مقيت

03 أكتوبر 2021
عُرف عن هذا المخرج المؤلّف ميله إلى التصوير في منطقته (Getty)
+ الخط -

ينحاز البعض إلى سينماه بشدّة، وينفر بعضٌ آخر منها. لكنْ، فرنسياً على الأقلّ، يصفها كثيرون بأنّها سينما غير تقليدية.
بعد تحقيقه أفلاماً قصيرة ووثائقية عدّة، جذب المخرج الفرنسي برونو دومون (1958) الأنظار إليه، بفضل أول روائي طويل له، بعنوان "حياة المسيح" (1997)، الذي تناول حياة مُهمّشين في شمال فرنسا، والذي نال جائزة "فيغو" الفرنسية، الممنوحة لمخرج فرنسي متميز، "تقديراً لاستقلالية تفكيره، وجودة إنتاجه"؛ بالإضافة إلى تنويه خاص في قسم "الكاميرا الذهبية"، في الدورة الـ50 (7 ـ 18 مايو/ أيار 1997) لمهرجان "كانّ" السينمائي. أما جائزة لجنة التحكيم الكبرى في المهرجان نفسه، فمنحت لفيلمه الثاني، "الإنسانية" (1999)، ثم لـ"فلاندر" (2006).


عُرف عن هذا المخرج المؤلّف ميله إلى التصوير في منطقته (شمال فرنسا)، وعدم استعانته بمممثلين محترفين. يقول: فلاّحة لدور فلاّحة (فلاندر)، وفنانة لدور فنانة (جولييت بينوش في " كاميل كلوديل"، 2013، الذي يروي حياة النحاتة الفرنسية المشهورة).

اليوم، يعود دومون مع ممثلة محترفة أخرى، هي ليا سيدو، في "فرانس" (2021)، الُمشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ". يُقال عنه إنّه خرّيج قسم الفلسفة، وإنّه مخرج يُسدّد قبضته للعالم، فهو لا يربّته، ولا يلاطفه. يصعب التكهّن بأسلوب تناوله مواضيعه المتنوعة، وتنقسم الآراء بحدّة حول أفلامه. "فرانس" لا يُستثنى من هذا، رغم أنّه يصفه بكونه أكثر أفلامه بساطة. ربما يكون هذا، لكنّه بالتأكيد ليس الأقلّ إثارة للجدل.

يرسم "فرانس" لوحة لامرأة صحافية، ولبلد ونظام إعلامي في الآن نفسه. فرانس (سيدو) نجمة تلفزيونية مشهورة. مذيعة ومحاورة ومراسلة حربية في محطة إخبارية. يلاحقها المصوّرون والمعجبون بها. تجد نفسها رائعة، ولديها هوس بصورتها، وسعي لا يكلّ إلى جذب الانتباه إليها. هي في المركز دائماً، ومحطّ اهتمام الكاميرا بكامل أناقتها وزينتها، بشعر أشقر، وأحمر شفاه فاقع، في تحقيقاتها الميدانية مع محاربين أشداء في أرض الوغى، أو في الإستديو. تتحدّد شخصيتها ونوعية الفيلم وهويته في المشهد الافتتاحي. هجاءٌ ساخرٌ من المحطّات الإخبارية، ومن التعامل المباشر للإعلام مع الحدث في فرنسا، ولعلّه كذلك في أمكنة أخرى من العالم، وربما بشكلٍ أكثر فجاجة. مشهد مربك، يختلط فيه الواقع بالمتخيل. فرانس تحضر مؤتمراً صحافياً لإيمانويل ماكرون. تحاول إحراجه بأسئلتها. بدل الاهتمام بردّه، تتبادل مع مساعدتها ووكيلة أعمالها لُو (بلانش غاردان)، المتمترسة على بعد خطوات منها، إشارات هازئة من الموقف (ومن الردّ؟)، وإعجاب من أداء الصحافية اللامعة قلباً وقالباً. كأنْ لا أحد غيرهما في الصالة.

توليفٌ دقيق، شكّل، رغم مبالغته أو بسببها، مدخلاً ذكياً إلى موضوع الفيلم، بكلّ ما يمكن للتلفزيون أن يمرّره، عبر خلق مواقف كتلك، أو أحداث كاذبة ومتخيلة وملعوب بها. يعود الفيلم إلى الفكرة نفسها في مشهد آخر. لكنّه، هذه المرة، يبديها على نحو أوضح وصادم. حين تحاول فرانس، عبر التوليف، الإيحاء في تحقيق تلفزيوني على مركب للاّجئين في البحر، أنّها معهم على المركب طوال الوقت، وتتعرّض للمخاطر نفسها، بينما هي في مركب فاخر، قريب منهم.

لكنْ، إنْ كانت فرانس في ظاهرها واثقة ومدّعية بأسلوبها ونرجسيتها المفرطة، فإنّ شخصيتها ليست على هذه البساطة. إنّها رمادية ومعقّدة ومتناقضة، تعي طابع أفعالها ونطاقها، لكنّها تفعلها. تشعر في أعماقها بتعاسةٍ، رغم تمتّعها بكلّ ما يهب السعادة. هشّة، وإنْ كانت "بائعة" للحدث، فهي لم تقدر على تجاوز حدث أصابها، وتلاعبها في نظام إعلامي قاس ينقلب عليها. المخرج المؤلّف (دومون كاتب السيناريو أيضاً) يحرص، من دون أنْ يتعاطف معها، على أنْ يهبها مواقف تبدي إنسانيتها وهشاشتها. يكفي حادث طريق تتعرّض له، لتنقلب إلى إنسانة تحاول، لمرة، النظر حولها، وتقدير ما يحيط بها من جمال؛ والاهتمام بأحد آخر غير ذاتها؛ ولم لا؟ انجذابها عاطفياً لرجل شاعري، يبدو بعيداً عن محيطها.

في هذا، هي نقيض مساعدتها لُو. شخصيةٌ لا يدع لها المؤلّف موقفاً نبيلاً واحداً. إنّها تجسيد كامل لآلة إعلامية ساحقة، تعمل على تأليف فيلمٍ روائي من خبرٍ، أكثر من رغبتها في الإعلام به. لُو أكثر فجاجة وخبثاً من فرانس. مزيجٌ من نفاق وعدم إحساس. لا تكترث إلاّ لسبق إعلامي تنشره لتحقيق نسب مُشاهدة عالية، مهما كان الثمن. لهذا الغرض، تسعى باستمرار إلى الحفاظ على صورة مستخدِمتها. لكنّها ستكون سبب هلاكها المهني من دون قصد، بعد تركها الميكروفون مفتوحاً على الهواء، ليسمع المشاهدون سخريتهما من الرحلة مع اللاجئين. تؤدّي ليا سيدو دورها كما لم تفعل من قبل. في تمركزها الزائد حول ذاتها مُبالغة فعّالة ومقنعة. يختار المخرج لها لقطات طويلة، فتحتلّ الشاشة وتفرض نفسها عليها. امرأة مسيطرة في عالمٍ يسوده رجال سلبيون، أو لا دور لهم كالزوج الكاتب الذي يعوزه الوحي، أو محتالون كالحبيب، أو ضعفاء بلهاء كالشاب الذي اصطدم بسيارتها.

"فرانس" فيلم هجاء لاذع لعالم الإعلام التلفزيوني، يُبدي فيه برونو دومون الصحافيين ضحايا نظام قميء، قائم على الاستهلاك. عالم لا رحمة فيه. بالغ المخرج بالهزء في مضمون بعض المواقف (فرانس المُراسلة الحربية في المعركة)، أو في شكل الإخراج وأسلوبه، مع استخدام صُوَر فاقعة الألوان، أو في الأداء التمثيلي. لكنّ المبالغة في مكانها، ولم يكن لها أدنى تأثير سلبي على التفاعل مع الفيلم، بل أحالت على كل ما يشاهده المرء يومياً على الشاشة الصغيرة.

في حوار معه (24 أغسطس/ آب 2021، على موقع Zone critique)، تساءل برونو دومون عن رغبته في تصوير شخص بغيض جداً كفرانس، قبل أنْ يجيب: "حسناً، هذا يهمّني ويثير اهتمامي (...). الفلسفة مهمّة جداً في عملي، فأنا أصنع السينما لأنها شكلٌ من أشكال المعرفة والفكر. إنّها تقدّم أدوات ممتعة للغاية، لدخول المناطق الرمادية التي لا يستطيع العقل استيعابها".

المساهمون