يبدو أنّ الموجة الجديدة الرومانية، التي بدأت مطلع الألفية الجديدة، وتألّقت على امتداد العقد الماضي، لم تضعف بعد. مدّها لا يكفّ عن الاستمرار والانتشار. في الأعوام القليلة الماضية، قدّمت السينما الرومانية أسماء جديدة شابّة في مختلف المهرجانات الدولية، حظيت أفلامها بتقدير وترحاب كبيرين، وتُوِّج بعضها بجوائز رفيعة، آخرها جائزة "أسد المستقبل ـ لويجي دي لورنتس" لأفضل مخرج واعد عن أول فيلم طويل، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)"، التي حصل عليها الثنائي مونيكا ستان (1982) وجورج شيبر ليلمارك (1979) عن "طهارة". كما أنهما نالا جائزة أفضل إخراج أيضاً، بينما حصلت ستان على جائزة أفضل سيناريو لكاتبة تحت سنّ الـ40 عاماً، من قسم "أسبوع النقّاد" في دورته الـ18، المُقامة في الفترة نفسها لـ"لا موسترا" أيضاً.
يتناول "طهارة" موضوع المُتعافين من إدمان المخدرات، أو من هم في سبيلهم إلى التعافي، في مصحّ خاص للتأهيل الطبي: داريا (آنا دوميتراشكو)، مُراهقة (18 عاماً) أدخلتها والدتها حديثاً إلى مصحّ للعلاج من الإدمان. تقوَّض عالمها إثر دخول حبيبها إلى السجن لـ4 أعوام، ما دمّر حياتها العاطفية والنفسية والدراسية، أكثر من تدمير الإدمان لها، الذي أقبلت عليه لإرضائه، فهو من دفعها إليه. المُلاحظ أنّ داريا لم تغرق تماماً في عالم الإدمان، وأنّها ترغب بصدق في التخلّص منه نهائياً، رغم أنّ الطريق طويلة، ومليئة بصعوبات شتّى.
قصّة إدمان داريا على الهيرويين مختصرة، ويُعرف مُجملها في البداية، عبر أسئلة وأجوبة استقصائية شبه تسجيلية. لذا، لا يغرق "طهارة" في العالم المأسوي للإدمان والمدمنين، ولا يُعاين المُعتاد في هذا النوع الصعب من دراما الإدمان والمدمنين، رغم كثرتها، ولا يبحث في الحافز البطولي إلى التغلّب على الإدمان ومصاعبه، ولا يتطرّق، تأييداً أو إدانة، إلى مؤسّسات العلاج والقائمين عليها، وطرقهم وأساليبهم. الأمر مُغاير كلّياً.
أيضاً، لا استعراض لأعمال العصابات، ولا للمُشاجرات. لا وجود لأطباء، وعمليات حقن، وتشنّجات، وصراخ، ولا للأجواء المُعتادة في المصحّات الاستشفائية. في "طهارة"، هناك العالم الخاص لداريا في المصحّ، والبيئة الجديدة التي يمنحها المصحّ لها، والتعامل المشوّش والمُضطرب مع شخصيات غامضة، مُتّزنة أو مُتقلّبة. أحياناً، تكون الشخصيات متفهّمة أو مرحة، وأحياناً أخرى استفزازية أو استحواذية، أو ساعية إلى إشباع رغبات متباينة. هناك أيضاً خصوصية ملحوظة من البياض والنصاعة والطهارة الظاهرة، المُغلِّفة للأشياء. هناك هدوء قاتل، وانسحاب وانعزال مميتان، بعيداً عن البشر والعالم والزمن. كأنّ المرضى يسبحون في عالم غريب شبه مثالي، يتعاملون فيه كأفراد أسرة واحدة.
الفيلم، المُستوحاة أحداثه من تجربة مُماثلة مرّت بها مونيكا ستان نفسها، يُركّز أكثر على وحدة ذلك العالم، الذي تخترقه المُراهقة داريا، التي تلفت انتباه الجميع، في البداية، بإخلاصها وحبّها وولائها لشريكها السجين، ما يجعلها مُميّزة للغاية في عيونهم، وأغلبهم رجال، باستثناء امرأة وحيدة تُدعى شانيل (إيلونا بريزويانو). لكنّ ذلك الإخلاص يتسبّب لاحقاً بمشكلات بين أفراد المجموعة، التي يترأّسها القائد سبارتاك (فاسيلي بافل)، قوي البنية، والمُدان سابقاً، الذي يفرض حمايته عليها، رغماً عنها أولاً، قبل أنْ تتوطّد علاقتهما كصديقين.
لا يهدف "طهارة" إلى ما هو أبعد من موضوعه الإنساني، مُقدِّماً شخصياته بكلّ تعقيداتها وتركيباتها، خاصة شخصية داريا، البريئة والطيبة والمُسالمة، إلاّ إذا تمّ تأويلها كرمز للطهارة والنقاء والبراءة، يصنعه البشر، ويُعجبون به، ويُمجدّونه، ثم يقدّسونه، وأخيراً يُدهشون لكونه مناقضاً لما اعتقدوه وتصوّروه. المؤكّد أنّ الفيلم يطرح أسئلة أخرى عن إمكانية أنْ يظلّ المرء طاهراً حتى النهاية، أو على الأقلّ حتى أطول فترة ممكنة، مع التنبّه إلى الظروف المحيطة به.
اللافت للانتباه أداء الموهوبة آنا دوميتراشكو، المقنع جداً في تأدية داريا، التي تحاول كمراهقة استكشاف وفهم شخصيتها والبشر والعالم حولها. ولولا تمثيلها الصادق والحسّاس، لفَقَد الفيلم الكثير من معناه وقوّته. إلى أدائها، هناك رصد دقيق لحركاتها وسكناتها، وتعابير وجهها تحديداً، بفضل تصوير بارع (لقطات مقرّبة وبعيدة وثابتة ومتحرّكة) للمخرج المساعد والمُصوّر جورج شيبر ليلمارك.
يتقاطع "طهارة" مع فيلم روماني آخر، بعنوان "لا تلمسني" لأدينا بنتلي، الفائز بجائزتي "الدب الذهبي" و"أفضل فيلم روائي أول"، في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي". التقاطع سينمائي وبصري وجمالي أولاً، علماً أنّ "لا تلمسني" أكثر تطرّفاً وقوّة وقسوة، وأكثر صعوبة في التلقّي من "طهارة".
على مستوى الحبكة، لا تماس له مع "طهارة". لكنْ، يغلب على الفيلمين اللون الأبيض، للملابس غالباً، والديكورات محصورة في جدران بيضاء معزولة عن كلّ شيء. كما أنّهما يشتركان في الأجواء والشخصيات الغريبة والقصّة غير المألوفة، وأيضاً في مدّتهما الطويلة (120 دقيقة تقريباً). صحيحٌ أنّهما غير مُملّين أبداً، وإيقاعهما غير بطيء. لكنْ، لو استُخدم المونتاج بصرامة أكبر، لازدادت جمالياتهما.
كذلك، يشترك الفيلمان معاً في كثرة اللقطات، ونسب الكادرات، والأطر القياسية المحدودة (3:4)، إذْ لا حاجة إلى لقطات بانورامية أو خارجية مثلاً، بسبب حصر الشخصيات في إطار عالمها الضيق والمختنق. هذا تأكّد بالتصوير المتميز لليلمارك، مُصوّر "لا تلمسني" أيضاً، علماً أنّ مونتاج الفيلمين لأدينا بينتلي.
أمورٌ كهذه تُفسّر مكمن الجماليات البصرية المتشابهة بينهما، رغم اختلاف القصّة والعوالم.