في خضم الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية المغربية (البرلمانية والجماعية والجهوية في آنٍ واحد)، المرتقب إجراؤها في 8 سبتمبر/ أيلول 2021، تذكّر أجواء حملات المرشّحين، رغم تأثير الإجراءات الاحترازية التي أضفت برودةً وفتوراً عليها، بـ"ضفائر" (2000) لجيلالي فرحاتي، أحد أهمّ الأفلام المغربية، التي عرفت كيف توظّف هذه اللحظة المهمّة في تاريخ الشعوب (رغم خصوصيات النموذج السياسي المغربي ونواقصه)، كرهانٍ حكائي وجمالي محوري، والتسامي بها لقول أشياء أساسية عن المجتمع وتفاعلات طبقاته المختلفة.
تُغْتَصَب سعيدة (سلوى الركراكي) في عودتها إلى المنزل، بعد تقديمها المساعدة لأختها كنزة (سليمة بنمومن)، الخادمة في منزل حميد بوسيف (محمد مفتاح)، المحامي الثري، وأحد وجهاء المدينة، الذي يُقيم حفل عشاء بمناسبة ترشّحه للانتخابات المقبلة. تعلم كنزة وأخوها المراهق أمين أنّ هشام، الابن الوحيد والمدلّل للمحامي بوسيف، هو المغتصب. لكنّ شعور الإنكار وتابو الاغتصاب والخوف من ردّة فعل بوسيف، وتراجعه عن التوسّط لمراجعة حكم السجن الظالم في حقّ زوج كنزة (بنعيسى الجيراري)، المُعتقَل بتهمة سياسية، تُعقِّد كلّها مهمّة مواجهة الفاعل بجرمه، وإعادة الاعتبار لسعيدة.
في القسم الأول من "ضفائر"، يشتغل السيناريو على التناقض بين عالمين: منزل كنزة المتواضع والضاجّ بحبّ الحياة وحرارة العيش، رغم تواضع المستوى المادي للأسرة، وفيلا بوسيف، حيث لا يفلح رغد العيش وترفه في تبديد البرودة والتباعد بين أب يُكرّس وقته كلّه لمشاغله، وابن مشغول بتتبع شهواته. برودة يفاقمها الطابع البراغماتي للحملة الانتخابية، ليرسم فرحاتي صورة قاتمة عن بورجوازية نفعية، أداؤها ومعاييرها الأخلاقية في السياسة انعكاسٌ لنموذج سلوكياتها غير السوية في الحياة اليومية. مُعطى مهمّ وأساسي يُنسى غالباً وسط صخب البرامج والخطاب السياسي المتضخّم.
هذا فحوى مشهد مهمّ، حين يقف بوسيف الأب وراء ابنه، المُتظاهر بالمشاركة في الحملة الانتخابية (مداراةً عن تورّطه في الاغتصاب)، ويسأله إنْ كان فعلاً يثق فيما هم بصدد فعله؛ وقدرة والده على النجاح "بعيداً عن الشعارات". هذا صوت ضمير المحامي، الذي بدأ يصحو حين رأى الانعكاس القبيح لاختياراته في الحياة في مرآة تصرّفات ابنه.
يُبئّر الحكي في البداية على شخصية سعيدة، الحالمة والمقبلة على الحياة، وهي تصبو لجذب انتباه نادل المقهى، وتتعامل برحابة صدر مع تغزّل الجار دريس، بائع العصافير وأقفاصها (فوزي بن السعيدي)، في جمالها من دون أنْ تبادله الحب. يغدو الاغتصاب لحظة فارقة بين طابع القسم الأول، المُشمس والمنفتح على رحابة العيش (أول لقطة: يدا كنزة تفتحان دفتي النافذة على اتّساعهما)، والحوارات ذات الطبيعة الشعرية، والقسم الثاني، حيث يطغى السواد والفضاءات المنغلقة والصمت المطبق على الجراح.
تبدو نفعية المجتمع أحد أهم أطروحات "ضفائر"، حيث تسود في اختيارات الحملة الانتخابية، ونقاش بوسيف مع مساعديه، على غرار الحوار الذي ينتهي إلى أنّ "الذكاء و"تاحراميات" (الغشّ والتدليس) سيان لأنّ هدفهما في النهاية واحد". لكنْ، أيضاً، في أوساط أمين وأصدقائه اليافعين، الذين لا يفكّرون سوى في كسب النقود، ويتواصلون بلغة مصلحية صرفة تفوق سنّهم بكثير، فحواها حساب وسمسرة وجفاء، تبدو كتجلٍّ مرآوي للانتهازية المسيطرة على الممارسة السياسية في عالم الصغار.
يبرع جيلالي فرحاتي، كعادته، في الإيحائية الرمزية، التي تتمثّل في الضفائر بصفة محورية. ضفائر الشعر والجدائل (المستعملة في تطريز الأزياء التقليدية وزخرفتها)، وأوراق الدعاية الانتخابية الملوّنة، والمفتولة بدورها على شكل ضفائر، توحي كلّها بالأقدار حين تتشابك بأبعادها السياسية والاجتماعية والعاطفية، فتُشكّل المصائر وتربطها.
يصير حادث الاغتصاب وبالاً جماعياً، يدفع بالجميع إلى الزاوية. كنزة الحائرة بين مآل قضية زوجها وأخذ حقّ أختها، وبوسيف المتوجّس من انعكاسات القضية على حظوظه في النجاح الانتخابي، وأمين الذي يجد نفسه أمام فرصة ذهبية للانتقام لأخته، ستُجهز على ما تبقى من براءة طفولته. ولعلّ أجمل ما في الفيلم تكوين اللقطات والحركات البديعة لكاميرا كمال الدرقاوي، المتتبعة للضفائر وتحرّكات الشخصيات في المشاهد الفارقة (أمين يغطّي آثار الدماء على الدرج بقطع الزليج، كأنّه يؤدّي طقساً روحياً، يذهب هشام قرباناً له، وكنزة تجمع شظايا زجاج السيارة المنكسر أثناء الاغتصاب، الذي يتناثر من ملابس سعيدة كحبّات لؤلؤ من عقدٍ منفرط).
هناك أيضاً اشتغال شاعري جميل، يجد صداه في الحوار، على فكرة أنّ الناس ينقسمون بين المحلّقين في الآفاق المفتوحة، وأولئك الذين يتموقعون في منزلة وسطى بين الأقفاص وخارجها، ومن يقبعون وسط الأقفاص. شيئاً فشيئاً، تجد الشخصيات نفسها حبيسة أقفاص بطرقٍ مختلفة: زوج كنزة مسجون. سعيدة لا تبارح المنزل جرّاء الاكتئاب. كنزة أسيرة الاختيار الصعب بين إنقاذ زوجها ونصرة أختها. هشام الذي لم يفرّ من دفع ثمن جرائمه إلاّ ليلقى حبساً آخر لن يخرج منّه حياً. حتى اللقطات الثابتة الأخيرة، التي يلقي أثناءها بوسيف خطاباً مفعماً بلغة الخشب السياسية في حشد من أنصاره، تحبسه نوعاً ما في إطار ضيق وخانق، يحيل على طبيعة وعوده الكاذبة، التي تصبّ لا محالة في دهاليز الفساد والانتهازية.
رغم بعض الارتباك الذي طبع القسم الأخير من "ضفائر"، يُترجم المشهد الختامي نهاية قوية، مُظهراً المطر الذي ذهب بألوان (أو بالأحرى مساحيق) الدعاية الانتخابية، مازجاً أوراقها بمياه الصرف الصحي. المنطق الأزليّ للسياسة يظلّ براغماتية بلا روح، تُدوّر كلّ شيء لتحقيق مآربها في السلطة، حتّى أكثر المصائب العاطفية والعائلية مأسوية.
طرحٌ غني وغير متقادم البتة، يشجّع على إعادة اكتشاف هذا الفيلم الجميل، بعد مرور أكثر من 20 عاماً على إنجازه.