بين المسرح والتلفزيون والسينما، تتعدّد مواهب المُؤلّفة والمُخرجة البريطانية جيسيكا صْوال (1982)، التي استطاعت، في مدّة قصيرة، أنْ تغدو على الشاشة الصغيرة إحدى أهمّ الأسماء النسوية الواعدة والمُؤثّرة في بريطانيا. شهرتها متأتية أساساً من التأليف المسرحي، البارعة فيه أعواماً عدّة، وبفضله نالت جوائز مختلفة، أهمّها جائزة "شكسبير غلوب".
الرغبة الجامحة في اقتحام السينما ظلّت تُخامرها، فقرّرت تسخير موهبتها الفنية في عالم الصورة، وحقّقت نجاحاً لافتاً للانتباه، مُقارنة بمخرجات عرفن الشهرة قبلها.
في جديدها السينمائي، "سامرلاند" (2020)، تؤكّد مرة أخرى اهتمامها الآسر بالمرأة وحقوقها، في مُجتمعٍ معاصر ومُتصدّع، في الحرب العالمية الثانية. فهي مشغولة بسوسيولوجيا المرأة ككائنٍ يتمتّع بحقوقٍ ورغبات، بعيداً عن أيّ سُلطة سياسية أو اجتماعية تُقلّص أحاسيس ومشاعر ونزوات جسدية، بوصفها رغبات فطرية في جسم الإنسان، لا يُقبَل كبحها تحت أيّ ظرف. ورغم القهر، يُصاب المرء بها، بسبب عاداتٍ وتقاليد وأفكار ورؤى، فتتقلّص الرغبة وتُكبَح، ما يترتّب عنها مشاكل سيكولوجية، يتأجّج وَهَجُها بشكل خفيّ في الجسد.
تسرد صْوال حكاية أليس (جيما أرتِرتون)، الباحثة في علم التاريخ والأساطير والفولكلور والمُعتقدات. تعيش وحيدةً، بعد وفاة والدها، في جزيرة تكاد تكون مهجورة. شخصيّة مُنطوية، ودفاعٌ حادّ ضدّ كلّ من يُعكّر مزاجها لحظة الكتابة، ما جعلها غير مَحبوبة من نساء القرية وأطفالها، الذين يعتبرونها مجنونة وجاسوسة نازية. ورغم مظاهر العبث واللامبالاة البادية في سلوكها، يكشف جسدها وتعابير وجهها أنّ هناك جرحاً ماضياً يُخيّم على حاضرٍ مُؤجّل. فمنذ تعرّفها، عندما كانت طالبة، إلى فيرا (جوجو مباثا راو)، تُغرَم بها. لكنّهما تفترقان سريعاً بسبب زواج فيرا من رجل، فتُقرّر أليس التخلّي عن حياتها الماضية، عبر رحلة تتمثّل بمأساة جسدٍ، تُشغله يوماً تلو آخر بهموم كتابة أكاديميّة، تفكّك رموزاً ومُعتقدات ينسجها البشر في مجتمعاتٍ تقليدية، ويُصنّفها المؤرّخون بكونها تعيش خارج صيرورة التاريخ البشري.
منذ بداية الفيلم، تلجأ جيسيكا صْوال إلى صُوَرٍ أشبه بومضاتٍ بصرية، لتبسيط الحكاية في ذهن المُشاهد. فرغم بدايتها كمُخرجة، تبدو مُحترفة وموهوبة وعارفة بمقالب الصُوَر ولعب السرد والحكي، وتهتم بالتقاط تفاصيل عيشٍ ونتوءات اجتماع، معتمدة صُوَراً مُباغتة لمُواصلة الحكيّ. ومنذ زيارة الطفل فرانك (لوكاس بوند) منزلها، بعد إجلائه من لندن، بسبب الحرب، ومكوثه معها أسبوعاً، تتغيّر حياتها أمام حيويّته، في ما يُشبه أملاً جديداً للتصالح مع ماضيها الجسدي. مأساةٌ مُتكتّمة، يُغذّيها بصرياً احتراف أداء أرتيرتون، المتوغلة في مسام شخصية أليس، المركّبة والموجوعة.
بين حاضر مأزوم نفسياً وماضٍ حافلٍ بالحب، لا يزال يسري في ثنايا الجسد والذاكرة، هناك صورة عامة للحكاية، تدعو إلى التأمّل، خاصّة أنّ صْوال تتكتّم، منذ البداية، عن بسط حكايتها بطريقة عادية، مستندةً إلى الترميز الذي يجعل خطابها البصري ينضح بتساؤلاتٍ سياسية ونفسية عن مصير علاقة مُختلفة في مجتمع بريطاني متصدّع، جرّاء أهوال الحرب. لذا، يُطرح سؤال: ألا يُمكن اعتبار هذه الخلفية التاريخية في سبر الحكاية أكثر غموضاً وتكتّماً من شخصياتها، أمام قضايا جسد، والحكاية لا تزال تشغل شاشات المخرجين؟
خطاب الصورة المُضمر يجعلها ذات طابع احتجاجي وسياسي مُتستّر، رغم ما يظهر من براءة وجمال على مستوى أنماط الصورة. قبول أليس بالتضحية واعتزال حياتها عامة، يعطِب طبيعة الرؤية في المجتمع الذي تنتمي إليه.
في "سامرلاند"، تتحدّد أنطولوجيا الجسد كعلامة جرحٍ لجسدٍ أنثويّ، يطمح إلى التمتّع برغباتٍ فطرية في مجتمعٍ بريطانيّ لم يخرج من أهوال الحرب ومأساتها البشعة على نفوس وسلوكاتٍ واجتماع. الجسد الخفيّ، والمُتكتّم عن أسرار ماضيه، يتّخذ صبغة أنطولوجية لفعل سياسيّ واحتجاجيّ، ويثور على يقينيات مواضع الوجود وواقعه المرير. هذا نفيٌّ مُسبق لكلّ أشكال السُلطة، في محاولتها التستّر على اختلاف ذاتٍ ومَلذات لاشعورها الفردي، الذي يُقحِم الذات في مجاهل غريزة طبيعية، يظلّ العقل المسؤول الأوّل والأخير عنها.
أشكال الرفض غير المُبرَّرة بصرياً وحوارياً تجعل الفيلم مفتوناً بخاصيّة الترميز السينمائيّ أمام سطوة الحكاية وبساطتها، وتكشف انفعالات أنثى إزاء تخلّي صديقتها عنها. فالصورة تتحدّد خصائصها الجمالية والدلالية كعلامةٍ، تهجس بخطاب احتجاجيّ يتنكّر لواقعه وتاريخه، كي يسمو الجسد عبر اللاشعور الخفيّ المكبوت إلى صنع شخصية أليس وعلاقاتها وأذواقها ورغباتها ونزواتها، فهو المُتحكّم في اختياراتها، والمُتملّص من رقابة العقل وسُلطته المنطقية القاهرة.
لذا، فإنّ شخصية الطفل عنصر حكائيّ، يُحرّض الحكاية على التدفّق، والصورة على قول ما لا يُقال. عبره، يبدأ نسيج النص حكائياً في الالتحام مع الشخصيات الأخرى. ارتأت جيسيكا صْوال أنْ يكون هذا وسيلة تصالح أليس مع حاضرها وماضيها، بحكم ما تحمله ملامح الطفل ورؤاه، وهو يرقب طيف "سامرلاند" يتشكّل بصرياً في عرض البحر، بسبب إيمانه بأهميّة المُستقبل.