"زهرة زرقاء" من كرواتيا: نحتُ العاديّ سينمائياً

25 يونيو 2021
"زهرة زرقاء": لحظة سينمائية ساحرة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في السينما، ينتابُ المرء أحياناً ـ وهو يُشاهد فيلماً ـ شعوراً بأنّه قادرٌ شخصياً على إنجاز عملٍ مثله. يحدث هذا مع أفلام معيّنة. بساطتها وطريقة تنفيذها تُوحيان بأنّ كلَّ شخصٍ، حتّى مَنْ لم تتوفّر عنده شروط الصنعة السينمائيّة، قادرٌ على تحقيق ما يتخيّله بسهولة.

هذا الإحساس يُلازم مُشاهِد الفيلم الكرواتي، "زهرة زرقاء" (2021). إحساسٌ يتأتّى من أسلوب سرده السينمائي، المتوافق مع مسار حيوات عادية، يدنو من التطابق معها. قصّته تشبه قصصاً تحدث في الحياة. تلامس تفاصيلُها عصبَ العلاقات العائلية، وتُحيل اختلافَ نظرات أجيالها للعالم إلى تعاقبات الزمن، واشتراطات التوافق معها. هذا اقترحه النصّ المسرحي في الأصل (كتابة وسيناريو الكاتب إيفور مارتينيتش)، وجعلته مشاركةُ المخرج زرينكو أوغريستا (1958) في الكتابة نصّاً، كلّ ما فيه سينما.

اختيار العادي ونحته سينمائياً: هذا يتفرّد به الكرواتي أوغريستا. يميل إلى عالم المرأة. يفكّر دائماً في معاينة أحوالها، وهي في أوج انشغالاتها الحياتية. في تحفته "في الجانب الآخر" (2016)، يتجلّى هاجس بحثه في قصّة امرأة، تسعى إلى لَمِّ شمل عائلتها، التي وزعتها الحرب بين كرواتيا وصربيا، وتركتها معزولة، من دون صلة بأهلٍ. تفضي رحلة بحثها في النهاية ـ على شدّة انذهالها من مقابلة بشرٍ، انعدمت ضمائرهم وتشوّهت دواخلهم ـ إلى مصالحة مع العالم، بكلّ قبحه.

في "زهرة زرقاء"، يتخلّص أوغريستا كلّياً من تأثيرات حرب البلقان، التي لا أثر لها في حياة المطلّقة الأربعينية ميريانا (فانيا كيريتش)، ولا بقايا منها في مدينة زغرب، التي عاشت فيما مضى حرباً أهلية. كلّ شيءٍ عادي، إلى درجة أنّ وصول والدتها في زيارة مفاجأة لها ـ بهدف إجراء فحوصات طبّية ـ تُصبح حدثاً. زاد وجودها ـ لليلةٍ واحدة ـ من تصاعد توتّرها الداخلي. أسئلتها عن تفاصيل عيشها وعلاقتها بابنتها فيرونيكا (تيا هارسيفيتش)، ونوع عملها، وما إذا كانت لها علاقة عاطفية بأحد، تشي كثرتها بانقطاع طويل بينهما، وقلّة تواصل مُتأتٍ من مشاغل حياتية، تترك كلّ واحدة منهما أسيرة ظرفها الخاص. في ثنايا الحوارات المتقطّعة، ونبرة التذمّر من الإجابة عليها، تردّد الزائرة أكثر من مرة عبارة اعتذارية: "أردتُ سؤالك عن شيءٍ نسيته. أكيد ليس مهمّاً، وإلا لما نسيته".

 

 

المشهد السينمائي، المكوّن من شقّة واحدة، قريبٌ من مَشَاهد مألوفة ومُعادة في أفلامٍ فرنسية. الحوار والثرثرة يُغطيان الجزء الأكبر من زمنها. "زهرة زرقاء" لا ينتمي إلى "سينما الحوارات"، لأنّ الكامن في روح نصّه يصنع مشاركة شخصية، تزيل المسافة بين المتلقّي والشاشة، وتخلق نوعاً غريباً من التوحّد بينهما. هل يُثير التشابه بين عادية حياة أبطاله وحياة الناس في كلّ مكان فضول المتفرّج، ويستدرجه إلى معرفة المُتشابه عندهم مع تجاربه، أو العثور على مناطق غامضة في دواخلهم، تختلف عن تلك التي عنده؟

مسارات الأحداث لا تُخيِّب رجاءً. تسرّب أحزان نساءٍ ومراراتهنّ، على ضياع أعمارهنّ جراء خيارات حياتية خاطئة، لم يعد هناك وقت لتصحيحها. زواج ميريانا وطلاقها من رجلٍ، تركها مع طفلتها وغادر إلى ألمانيا، ليتزوّج هناك من غيرها. ابنتها الشابة تتوافق في عيشها مع حياة تتحفّظ هي عليها. علاقتها العابرة مع مديرها تعمّق مرارات وحدتها. وجود الأم يُذكّرها بابتعادٍ عائلي مؤلم، تفرضه أنماط عيش. أشياء كثيرة تجري مع الزمن، من دون أنْ تنتبه إلى جمالها، كالنهر القريب من بيتها. منذ زمن طويل، لم تقف عند ضفّته، ولم تتأمّل سحره. الأم، بوجودها وأسئلتها، تُثير حزناً عميقاً كامناً فيها، والموسيقى تضفي عليهما شدّة، وتنسج بإدهاشٍ خيوط تواصل وانفعال بين حياتين: على الشاشة، وقُبالتها.

منذ وصول الأم، يجري الحديث عن فستانٍ بسيط اشترته ابنتها لترتديه يوم الاحتفاء بها، بمناسبة مرور عشرين عاماً على عملها كإداريّة في معمل نسيج صغير. مباهج الحياة الصغيرة تؤجّل السؤال عن تفاصيل أخرى، ربما تثير هموماً، وتضفي كآبة على حياة، لم تبخل عليها بالكثير منها. في صباح اليوم التالي، تذهب الأم إلى المشفى لإجراء الفحوصات. مساء، تذهب هي إلى الحفل. تلاحظ باستغراب وصول أشخاص تعرفهم، من دون دعوة. رأتهم أشباحاً يرقصون معها، وأمّها كانت بينهم. دنت منها وأخبرتها أنها ماتت بسكتة قلبية في المشفى. أوصتها بابنتها وبحياتها المتبقية بعدها.

لن يعكّر ذلك الحدث المسار الهادئ للفيلم، المُحافِظ على إيقاعه، ناقلاً الحزن إلى مكان آخر، قرب النهر، تلتقي فيه ميريانا بابنتها. يشي المشهد الختامي بتصالح حياتي مقابل موت مؤلم، جسّده مشهد متخيّل، أدّته ببراعة الممثلة أنجا سوفاكوفيتش ـ ديسبوت.

في لحظةٍ سينمائية ساحرة، تجتمع المرأة العجوز بثلاثة أجيال من الكرواتيات، فرّقتها مشاغل الحياة، وذكّرت بجمالها "زهرة زرقاء"، أهدتها لابنتها إحدى صديقاتها المقرّبات، ليلة الاحتفال.

المساهمون