"ريش": جمالية صُوَر كاشفة وفاضحة

08 يونيو 2022
دميانا نصّار: ملامح وصمت أجمل من كل أداء وقول (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لشدّة واقعيّته، التي تُقدِّم صُوراً وتفاصيل قاسية، يرتكز "ريش" (2021)، للمصري عمر الزهيري، على شيءٍ من الفانتازيا واللامعقول. معاينة واقعٍ تنبثق من إمعانٍ سينمائيّ في تفكيك حالةٍ، تتمثّل بفقرٍ مُدقع. التوغّل في تلك البيئة الفقيرة، بما فيها من أحوالٍ وانفعالات وأسئلة، انعكاسٌ لبشاعةٍ لن يُوارِب الزهيري في تبيانها سينمائياً، ولن يحتال بالكاميرا (مدير التصوير: كمال سامي) كي يُظهرها إلى علنٍ، يتنصّل (العلن) منّها، ويُنكرها، بل يلتقط تفاصيلها من دون إضافات أو تشذيب.

لكنّ "ريش" ـ الذي يُعرض مرّتين في الدورة الـ11 (10 ـ 19 يونيو/ حزيران 2022) لـ"أيام بيروت السينمائية" (beirutdc.org/ayam)، مساء الخميس، 16/ 6، في بيروت وصيدا (جنوبي لبنان) ـ غير ذاهبٍ إلى تلك الحالة وبيئتها بهدف تشهيرٍ أو جَلْدٍ للذات. فالواقع مرير، وما تلتقطه الكاميرا من حالاتٍ في مواقع مختلفة، تتلاءم وهذه الحالات، أو تكون بيئة حاضنة ومُنتجة لها، أقلّ بكثير من الواقع ومراراته. كشفُ شيءٍ من مستورٍ في اجتماع وعيش وعلاقات ـ بلغة الصورة الغالبة، أحياناً كثيرة، على أي كلام/ حوار ـ متأتٍ من رغبةٍ سينمائية في اختبار مدى تمكّن الفانتازيا واللامعقول من ابتكار مشهديّة بصرية، تجعل الواقع مرايا، تُعرّي وتفضح وتبوح. وهذا، أي التعرية والفضح والبوح، يمنح صانعها السينمائيّ مساحةً حيّة لاختبار مخيّلة وتفكيرٍ ونظرة في مقاربتها تلك الحالات، في أمكنتها وفضاءاتها.

ميل عمر الزهيري (مخرجاً ومُشاركاً أحمد عامر في كتابة السيناريو) إلى صُنع توازنٍ متين، سينمائياً ودرامياً وجمالياً، بين واقع مزرٍ وفانتازيا/ لامعقول، في سرده حكاية عائلة فقيرة، تجريبٌ في كيفية جعل الصورة تُفصح عن بعض أجمل ما فيها من لغة ومعالجة، ومن تفتيت ما يمنع المخبّأ من الانكشاف علناً. غلبة الصمت وغياب الموسيقى يتكاملان في إعلاء شأن الصورة، وقدراتها على قولٍ، تعجز الكلمات عن التفوّه به.

ملامح دميانا نصّار (الأمّ) كافيةٌ لتسهيل تواطؤ بين مُشاهِد ومُشاهَد. وحدها تجعل السرد البصري أوضح وأصدق وأقسى، وأكثر شفافية. هذا لن يحول دون تنبّه إلى أداء آخرين. لكنْ، للأمّ شحوبٌ يقبض على الوجه والنظرات والحركة، وغضبٌ مكتوم يُمنَع من تعبير مباشر عن غليانه، وقبولٌ لحالة وواقع يوحي (القبول) بخذلانٍ وخنوع، لكنّه يُثابر على مقارعة تحدّيات وتسلّط والتباس تساؤلات، إنْ تُعرف أجوبتها، ينتفي كلّ جمال في نصّ سينمائيّ، يعتمد المواربة والحيلة، درامياً وجمالياً، في بوحٍ وانتقادٍ موارِبَين. لدميانا نصّار عفوية أعمق من أي حِرفيّة، وبساطة أجمل من كلّ تمثيل، وطيبة أعمق وأصدق من كلّ شيء آخر.

 

 

كلّ مشهدٍ يُصنع بدقّة باحثٍ عن جزئياتٍ مستلّة من يوميات قهر وانكسار وخيبة. كلّ لقطةٍ تبدو، رغم مدّتها القصيرة، دهراً كاملاً، لشدّة البؤس والتوهان والبحث عن ملاذٍ، فالخلاص مستحيل. كلّ حركة وصورة وزاوية ولقطة (بعيدة/ قريبة) تتكامل في تشكيل صُورٍ، بقدر ما تغوص في وحل العيش وعفنه، وتصبو إلى ما وراء العيش، بوحله وعفنه، ففي عيشٍ كهذا أحوالٌ تقول إنّ في البلد والاجتماع والعلاقات ما هو أسوأ من المُصوَّر.

رغم هذا، فالركون إلى أنّ "ريش" ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى ـ نسْبريسّو" في "أسبوع النقّاد الـ61"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ يسعى إلى انتقادٍ وتفكيك فقط، يُقلِّل من جمالياته السينمائية، المنبثقة من لحظة تملّك الفانتازيا واللامعقول واجهة المشهد، بل المشهد كلّه.

فالسينمائيّ فيه متماسك، وسرده الحكايات وتصويره الانفعالات والحالات يُكملان سيرة عائلةٍ، يجد أفرادها أنفسهم، فجأة، أمام حادثةٍ غريبة، يستحيل فهمها وكيفية حصولها، ويصعب كثيراً كيفية التعامل معها (مع أنّ هذا غير مهمّ، ففي المسار الحكائي مسائل أهمّ وأخطر وأجمل): في حفلة عيد ميلاد أحد أبناء العائلة، يُطلَب من ساحرٍ تقديم عرضٍ في المنزل، الذي يبدو أنّه آيل إلى الانهيار. والساحر، المفتون بألعابه الغامضة والمُثيرة لضحكٍ ودهشة، يطلب من الأب (سامي بسيوني) الانضمام إليه في إحدى وصلاته، فتكون النتيجة صادمة: الرجل يختفي، ودجاجة تظهر بدلاً منه.

هذا منطلقٌ لرحلةٍ، تمزج الواقعيّ بالحسّي والغرائبيّ بالملموس، تقوم بها زوجة/ أمّ بحثاً عن بعلها المفقود، وسعياً إلى قوتٍ يُفترض بالمصنع الذي يعمل فيه الزوج/ الأب المختفي، والمتحوّل إلى دجاجة، أنْ يمنحه لها ولعائلتها. رحلةٌ تكشف خراباً في بنى العلاقات والأخلاق والعيش.

"ريش" أحد تلك الأفلام العربية التي تستدعي أكثر من مُشاهدة، لمتعة يصنعها السينمائيّ فيها، وأكثر من قراءة، لشدّة دلالاته وإشاراته ومرويّاته وجمالياته.

المساهمون