"رجال" بيلفو عن حرب الجزائر: بداية واعدة وتتمّة باردة

18 يونيو 2021
جيرار دوبارديو: قامة كبيرة في فيلمٍ مرتبكٍ (تييري روج/ فرانس برس)
+ الخط -

 

حفلٌ عائليّ يقتحمه برنار (جيرار دوبارديو)، ليُقدّم هدية إلى المحتفى بها. مَنْ يقلْ اجتماعاً عائلياً، يتوقّع بهجة وذكريات، أو خلافات وصراعات، و"همز ولمز". الدخول المفاجئ للعملاق، وتساؤلاته عن أمواتٍ ليسوا هنا، وعن حربٍ لم تُسمَّ، وعن أشياء أخرى، وما سببّه من صدمة غير سارة للحضور، هذا كلّه كفيلٌ بتزويد الفيلم، من بدايته، بأجواء مشحونة، تُشعِل فضولاً، وتُهيّئ لتلقٍّ. لكنّ ذلك يخبو سريعاً، وبدل الإثارة يحلّ شيءٌ من لامبالاةٍ، وشعورٍ بانفصالٍ عمّا يدور على الشاشة.

"رجالٌ"، للبلجيكي لوكا بيلفو، يحمل شعار "الاختيار الرسمي لمهرجان كانّ 2020"، يُعرض حالياً في الصالات الفرنسية. فيلمٌ فرنسي، مبنيٌ على رواية بالعنوان نفسه (2009) للوران موفينييه، عن حرب الجزائر من وجهة نظر مُشاركين فيها، بعد 40 عاماً على انتهائها. تَناولُ حرب الجزائر من وجهة نظر فرنسية نادرٌ سينمائياً، فالموضوع لا يزال يُثير ارتباكاً، ويعكس حساسيات متبادلة بين الطرفين، وعدم ارتياح عميق في كلّ واحد منهما، ما يجعل تحقيق فيلمٍ، يتناول أي جانب من جوانب هذه الحرب، عاملَ جذبٍ بحدّ ذاته. وإذا أُضيف عليه اسم مخرج معروف وممثلين كبار، تبدو العناصر حينها كأنّها اكتملت لتحقيق فيلمٍ على مستوى الحدث، شكلاً ومضموناً.

هذا لم يتحقّق تماماً. بعد مقدّمةٍ ذات إيقاع بارد، والبرود غير البطء، رغم المشهد المشحون بأسرارٍ، الذي يَعِدُ السرد بكشفها تدريجياً، يدخل "رجالٌ" في رواح ومجيء، لا ينتهيان، بين ماضٍ وحاضرٍ، مُسترجعاً أحداثاً وذكريات، بعضها حاصلٌ في الحرب، وبعضها قبلها وبعدها. تتداخل مواقف، يلفّها غموضٌ وتشويش. بينما تسير المَشاهد، زمنياً، في خطٍ متوازٍ بين الجنود في الجزائر (الماضي)، مع تركيز على برنار وقريبه رابو (جان ـ بيار دارّوسّان)، ومقتطفات من حياة الشخصيتين والأسرة (الحاضر)، يعتمد السردُ فيها على إلقاءٍ (Voix off) بصوت الشخصية، يشرح ـ بنبرة مسرحية مُحمّلة بشجن ـ شيئاً من مشاعرها وخباياها.

في المشهد الأول، أثناء احتفال العائلة الكبيرة بميلاد صولانج (كاترين فْرو)، ينفر الجميع من دخول برنار عليهم، وهو يُقدّم لأخته الهدية الثمينة. إنّه شبه مُتشرّد، مُهمّش، يعيش على إعاناتهم، فمن أين له ما اشترى؟ يحصل تلاسنٌ يُنبئ عن بغضٍ، مُستتر للبعض وصريحٍ للبعض الآخر. يسأل عن مكان الموتى، هؤلاء الذين قضوا في الحرب؛ وعن تخلّي فرنسا عن الجزائريين الذين عملوا معها. يُهين سعيد (فريد لاربي)، الحاضر في الحفل، فهو لا يعتبره عربياً لأنّه أتى مع الفرنسيين، ويعتدي على عائلته.

تحيل عودة إلى الوراء (فلاش باك) إلى شخصية برنار شاباً (يُوان زيمّر، في أداءٍ لافت)، وقريبه رابو (إدوار سولْبيس)، ويومياتهما مع أفراد الكتيبة العسكرية المعزولة في الجبال الجزائرية، في حربٍ دُفعوا إليها. بعضهم آمن بها، لكنّ بعضاً آخر أُجبر على خوضها، بينما كان بعضٌ ثالث لامُبالياً، مُعتبراً إياها مجرّد محطة لخدمة فرنسا. ما اهتمّ به السرد لم يكن الحرب نفسها، بل تأثيرها النفسي على الأفراد، مُعتمداً لذلك على أحداثٍ، تُبرز الوحشية والفظاعات الفرنسية، وما يقابلها أحياناً من ردّ فعل مُماثل لدى المُقاتلين المحليين (مشهد تشويه جثة الطبيب الفرنسي). كذلك، كيفية تمضية الجنود أوقاتهم في إجازات قصيرة، بين سهرٍ ولهو وفتيات، وتنافسٍ على حبّ وحماقات، كنوع من التنفيس، بعد ما تشهده أيامهم من قسوة.

 

 

عدم قدرة الشخصيات، برنار مثلاً، على البوح، وانغلاقها على آلامها، واحتفاظها بمشاعرها لنفسها غالباً، لا سيما أمام قسوة عسكرية فرنسية تجاه القرويين المدنيين، تركَتْ آثاراً عليها لم تُمْحَ بعد العودة، أو على العكس، مُحيت تماماً عن سابق تصميم. برنار انعزل عن محيطه، وعاش مُهمّشاً على ذكرياتٍ مؤلمة لم يحكِها لأحدٍ، فيما قريبه رابو اعتبرها مرحلةً وانتهت، وقرّر ـ رغماً عنه ـ محوها من ذاكرته، والانغماس في حياة مجتمعه القرويّ.

لم يتعمّق "رجالٌ" في رسم هاتين الشخصيتين، بل كَثّف اهتمامه على مرحلة الشباب في الجزائر، وكيفية عيشهما الحرب، رغم تقليديةٍ وافتعال، أحياناً، لما أظهره منها، أداءً وديكوراً ومواقف. بينما لو تمّ التركيز على ما بعد الحرب، وعلى تأثيرها المتفاوت على الشخصيتين، لبدا الفيلم أكثر تجديداً. هناك برودٌ طاغٍ على المَشاهد، جعل لقطاتٍ عدّة تتطلّب تعاطفاً وتضامناً واستغراقاً، كمشهد البداية، الذي يبدو مُفتعلاً وبعيداً عن الأثر، دقائق قليلة بعده. قصص الجنود وحياتهم متوقّعة، كالوحشية مع السكّان، ومحاولة اغتصاب صبية جزائرية، وقتل ولد صغير، هذا كلّه بدا كأنّه شوهد عشرات المرات، في أسلوب تقديمها.

لم يتطرّق الفيلم أيضاً، وبوضوح، إلى علاقة الشاب برنار بالفتاة الفرنسية الغنية، لا سيما بعد عودتهما من الجزائر. كان يُمكن معالجتها على نحوٍ أكثر قرباً منهما، للشعور بعواطفهما، وتأثير اختلافهما الطبقي، وما تركته الحرب من آثارٍ على نفسيّتهما، وبالتالي على علاقتهما بعد العودة. كلّ ذلك ظلّ مُشوّشاً وغير واضح. وبقيت الأحداث بعيدة عنْ أيّ تأثيرٍ عاطفي، بسبب المبالغة في اللجوء إلى صوت الراوي، الذي يشرح دوافع الشخصية وأحاسيسها الدفينة.

بدا "رجالٌ" كأنّه يُلقي، سينمائياً، تلك الرواية المأخوذ منها، بدلاً من إيصالها إلى المُشاهد عبر الصورة واللغة السينمائيتين. الأجدى ربما قراءتها، وتخيّل أبطالها وأماكنهم، خصوصاً أنّ الديكور لم يساعد على إثارة الإحساس بالمكان، لا في الثكنة العسكرية، ولا في بيوت الجزائريين القرويين، ولا في الطبيعة (صُوِّر الفيلم في المغرب)، فبدا كلّ شيء مُركّباً ومُفتعلاً. حتّى الممثلين، كانوا أكبر من أدوارهم.

المساهمون