"ذا فرينش ديسباتش"... رسالة حب إلى الصحافة

17 نوفمبر 2021
يتضمّن الفيلم تقنيات سرد متنوعة وغنية (Imdb)
+ الخط -

ليس من السهل أبدًا وصف فيلم ويس أندرسون الجديد، ولا حكايته المقسمة إلى لوحات ثلاث، تمثل في مجملها عددًا للصحيفة التي سمي الفيلم باسمها. يتحدث العمل عن صحيفة خيالية تُدعى "ذا فرينش ديسباتش" The French dispatch، بقيادة المحرر آرثر هاوتزر جونيور (بيل موراي)، ومعه فريق من الصحافيين الذين يعملون بلا توقف، لإصدار العدد القادم من الصحيفة. العدد الأخير الذي من شأنه أن يشكل محور الفيلم، بحكاياته الثلاث الغريبة التي تتلقاها كمشاهد للفيلم، وقارئ للعدد الصحافي في آن معًا. 
يبتدئ الفيلم برحلة دراجة يقودها هيربسينت سازراك (أوين ويلسون)، كما لو أنه مراسل متجول، في بلدة أينوي سور بلازيه الفرنسية، حيث نشأ المحرر، وهو يصف لنا أهم مواقعها وزواياها، معرفًا إيانا بالنشالين والجثث العائمة، وعصابات الشارع؛ صورة وحشية تُسرد بفكاهة وسخرية إلى الكاميرا مباشرة في أسلوب شبيه بأفلام وودي آلن. ومنذ المشهد الأول، يدرك مشاهد الفيلم أنه لن يتعامل مع طبقة واحدة من السرد، وأن عوالم الفيلم ليست بالسهلة، والتناقض هو المفتاح لفهمها، فالجمال لا ينفصل عن البشاعة، ولا الرهافة لا توجد وحدها من دون القسوة في مثل هذا العالم المحسوس. 


ننتقل بعدها إلى المقالة الأولى في الفيلم، بعنوان "التحفة الخرسانية"، وهي عن موسيس (بينيسيو ديل تورو) الرسام العبقري الذي يقضي عقوبة في السجن لارتكابه جريمة قتل، وعن وقوعه في حب سجانته سيمون (ليا سيدو)، وهي الملهمة، الحارسة، مديرة أعمال الرسام السجين، وميسرة لقاءاته مع تاجر فنون يُدعى جوليان كادازيو (أدريان برودي)، وهو زميل نزيل أدين بتهمة الاحتيال الضريبي. يقوم جوليان بتجنيد موسيس لإنشاء معرض في السجن، داعيًا وفدًا فنيًا لحضوره، الحدث الفني التي سيتحول لاحقًا إلى مجزرة.
أما المقالة الثانية، "التنقيحات على البيان"، فهي عن احتجاجات الطلاب في باريس عام 1968، الحدث الشهير الذي التقطه أندرسون بخفة، وأبرز جانبًا مغايرًا له، بمزاج أقرب إلى سينما غودار، وبطرافة سحرية تذكرنا بأفلام تشارلي تشابلن. بطل هذه القصة هو زيفيريللي، الطالب المتمرد (تيموثي شالاماي)، غريب الطباع، المدافع الشرس عن مطلب دخول الشباب إلى مهاجع النساء، وعلاقته العاطفية بامرأة تكبره سنًا؛ لوسيندا (فرانسيس ماكدورمان) مراسلة سياسية تعمل في ذات الصحيفة. 
أما المقالة الثالثة، والأخيرة، المعنونة بـ "غرفة الطعام الخاصة لمفوض الشرطة"، فهي عن الكاتب ملون البشرة المهاجر روبوك (جيفري رايت)، ومقالته عن طاه بوليسي يعمل في قسم الشرطة، يدعى نيسكافيه.
يقود كل لوحة عدد كبير من النجوم، ومنهم وليام دافو، إدوارد نورتن وكريستوف فالتر، بأدوار صغيرة، قد لا تتعدى في بعض الحالات المشهد الواحد، إلا أنها حاضرة بقوة وبشكل لا يمكن الاستغناء عنه.
لا يتحدث الفيلم، الذي وصف بكونه "رسالة حب للصحافة" عن معاناة الصحافيين مع السلطات والرقابة والفساد، كما جرت العادة في معظم الأفلام التي تتناول عالم الصحافة، ولا هو عن معاناة الكتّاب في إيجاد الإلهام أو القصة الناجحة. هنا فيلم عن القصص ذاتها، وعن العلاقة التي يبنيها كتّاب المقالة مع قصصهم وشخوصها، عن ماض لم يختبره أندرسون بنفسه، لكنه تشرّب إيقاعه ولونه كما لو أنه عاشه. فعندما يتعلق الأمر بنحت الماضي في تشكيل بصري مذهل، يبدو أن أندرسون هو الشخص المناسب لهذه المهمة؛ فمن أصوات الآلة الكاتبة، المفاتيح، إلى توازن اللون وعتاقة الديكور، وصولًا إلى إحياء الخردة، وتكثيف التفاصيل التي قد تحتاج إلى مشاهدات عدة حتى يتم التقاطها، يقارب أندرسون تجربة الكتابة الصحافية عبر الصورة والصوت.

ينوع المخرج، في تقنيات السرد طوال الفيلم، فيستعمل الشاشات المنقسمة، الفلاش باك، والقفز الزمني إلى الأمام

ينوع المخرج، كذلك، في تقنيات السرد طوال الفيلم، فيستعمل الشاشات المنقسمة، الفلاش باك، والقفز الزمني إلى الأمام. ويكسر الإطار الدرامي بأسلوب معقد ومتعدد الطبقات، فيتنقل من الأبيض والأسود إلى الملون، ومن الحركة الحية إلى الرسوم المتحركة ليكمل بجرأة بقية قصته. ويمزج، مستفيدًا من تقنيات المسرح، بين ما هو إيهامي وما هو تغريبي، فيزيح ممثل قطعة ديكور وينتقل بنا عبرها إلى المشهد التالي، أو يأتي رجل كهل ليحل محل الشاب في دلالة على مرور الزمن. خليط لا يمكن إلا لأندرسون أن يصنعه.
ومع وضوح عاداته السينمائية وبصمته الفريدة، يقتبس أندرسون أساليب غيره من المخرجين الكلاسيكيين أيضًا، كنوع من "التحية" لزمن أكثر اندفاعًا كانوا هم رواده. التحية ذاتها يوجهها أندرسون لوجوه الثقافة وصناع الصحافة التقدمية، التي كانت في أوجها منتصف القرن العشرين. أمر أكده صاحب "جزيرة الكلاب" في نهاية الفيلم، عبر سرد قائمة طويلة من أسماء الشخصيات البارزة في نيويورك، كالمحرر المؤسس لصحيفة "ذا نيويوركر"، هارولد روس (الذي تستند إليه شخصية موراي إلى حد ما)؛ إلى جانب مجموعة من الكتبة النيويوركيين الكلاسيكيين، أو زملائهم في الصحافة، بدءاً من الموظفة ليليان روس إلى لوسي سانتي، إحدى أشهر مؤرخات العصر. يبدو الفيلم بأسره تكريمًا لأساطير الحقبة الماضية، لأولئك الذين جعلوا من تلك المثل أمر يستحق الحلم. 
ولا يقل التعقيد البصري الذي صنعه أندرسون، عن ذاك الذي قدمه النص (الذي شارك المخرج في كتابته مع رومان كوبولا، هوغو غينيس، وجيسون شوارتزمان)، يقدم النص وجهات نظر عديدة ومبطنة عن اضطراب المجتمع والعنف السياسي وقسوة المؤسسات، إلا أنه لا يظهر هذه المعاناة بشكل مباشر، بل يتحدث عنها بوصفها صدى يرتد على باقي الأشياء، وخاصة الحياة اليومية.

تتصادم الأفكار في عالم الفيلم، فيواجه المتمرد المحافظ، يتناحر رعاة الفن مع مقدميه، تتصارع الأجيال بمُثلها. وخلف كلّ هذه الرؤى الكثيفة والداكنة عن العالم، يكمن سؤال مهم عن المقاومة: هل باتت الشجاعة معلماً رومانسياً لزمن ولّى؟ كيف نقاوم في عالم أكثر تعقيداً كالذي نعيشه اليوم؟ أسئلة يعرفها أبطال الأزمنة القديمة والحديثة، وأولئك الذين يكتبون قصصهم.

دلالات
المساهمون