صندوق واحدٌ، يحتوي على دفاتر ورسومات وأشرطة كاسيت وكاميرا فوتوغرافية، يُعيد أفراداً إلى زمنٍ ماضٍ، يُفضِّل بعضهم عدم استعادته البتّة. "دفاتر مايا" (2021)، للّبنانييّن جوانا حاجي توما وخليل جريج، يريد استعادة شيءٍ من هذا الزمن، لكشف حميمياتٍ خاصة (النص يستند إلى رسائل لحاجي توما، مكتوبة بين عامي 1982 و1988، ومُرسلة إلى صديقةٍ لها)، تكون ركيزة حياة مفتوحة على حربٍ وانكسارات وخيبات وصداقات وحبّ وانهيار وغربة وأعطابٍ.
إنّها حرب أهلية في لبنان (1975 ـ 1990)، تنعكس على داخلٍ موزّع على ذوات ومنازل وعلاقات. حربٌ تُشوِّه رغم لقاء عفوي بين مُراهِقَين، يخطوان معاً إلى عمر الشباب، يصنع (اللقاء) حبّاً بينهما، في حربٍ تكسر كلّ شيءٍ، من دون قدرةٍ على كسر الحبّ، رغم تعطيلها إياه، بتسلّلها ـ بقسوةٍ وخبثٍ ـ إلى منزل عائليّ، فتحطّم أفراداً ومسائل، وتؤدّي بأفرادٍ إلى هجرةٍ أخيرة.
في مونتريال، يُعيد صندوقٌ واحد ماضياً يُراد له حصانة عميقة في النسيان، لكنّ موتاً آخر يُرسِل الصندوق إلى هناك، وحشريةُ مُراهِقَةٍ تفرض للذاكرة مكاناً لها، الآن هنا.
العنوان العربي مُلائمٌ تماماً لنصٍ (سيناريو حاجي توما وجريج والفرنسية غايل ماسِي) ينبثق من تلك الدفاتر تحديداً، المكتوبة بقلم مايا (اللبنانية منال عيسى زمن الحرب الأهلية) وأحاسيسها وانفعالاتها ومشاغلها وأشواقها، كمن يكتب رسائل، وفي الوقت نفسه يؤرّخ أحد فصول تلك الحرب، بأفعالها المتناقضة. يوميات ـ رسائل مُسجّلة على أشرطة كاسيت، وهذا تقليدٌ متداول حينها، تُضاف إليها صُورٌ تؤرِّخ، بدورها، "اللحظة" (كقول للفرنسي ألبير كامو: الصحافي مؤرّخ اللحظة). يوميات ـ رسائل تنبض حياة معلّقة بين جحيم موت وعنف وقسوة وخيبات وآلامٍ، وفرح حبٍّ يجعل القلب حيّاً، والجسد ضوءاً، والعقل شغفاً يواجِه وحشية الخراب وديمومته.
لكنّ العنوان الأجنبي لن يُخالِف النواة الأساسية، بل يُكمِل المُراد من صُنع فيلمٍ روائي طويل (102 دقيقة): "صندوق الذاكرة (Memory Box)". العنوانان غير مُحمَّلين بأكثر من المطلوب، ففيهما إشارتان واضحتان إلى مغزى الفيلم وحكاياته وعلاقات ناسه، كلّ واحدٍ مع نفسه، ومع الآخرين. عنوانان متكاملان في إعادة ذاكرة إلى حيوية التذكّر، وعيش زمنٍ مليءٍ بخوفٍ ومتاهة وقرفٍ وانكسار، وفي الوقت نفسه مليءٍ بحبٍّ سيكون أقوى من الدمار والموت (أحد المشاهد رائعٌ: الحبيبان المُراهقان الجميلان على درّاجة نارية، ينطلقان بخفّة وفرحٍ وتحدّ في ليل بيروت، المُضاء بقذائف الحرب وأصوات رصاصها، وهما غير مكترثين وغير مهتمّين، فالحرب وراءهما فعلياً، لأنّهما راغبان في أنْ تبقى انطلاقتهما إلى الأمام دائماً). ورغم هذا، ستتعطّل العلاقة الناشئة من هذا الحبّ، فرجا (اللبناني حسن عقيل) ينخرط في الحرب، ومايا ترضخ لمشيئة والدين يرفضان الحرب من دون قدرة على غلبتها.
في مقابل قسوة الحرب ولحظاتها الجميلة، هناك ارتباك علاقة بين ألكس (الفرنسية بالوما فوتييه) وأمّها مايا (الفرنسية ريم تركي، ذات الأصلين التونسي والإسباني، في راهن مونتريال)، في مسألة ذاك الماضي الخاص بأمّها، في مُراهقتها. مايا صامتةٌ كلّياً أمام ألكس بخصوص ماضيها. الجدّة (الفرنسية كلمانس صبّاغ) في منزل ابنتها، وحفيدتها معها، تتردّد بارتباك أمام استلام المُرسَل إلى مايا، بعد وفاة صديقتها الأقرب إليها، وتُصرّ على عدم قول شيءٍ عنه لمايا، فالليلة عيد الميلاد، وليكن الاحتفال به هادئاً. إصرار ألكس يدفع الجدّة إلى وعدٍ لها بإخبار مايا عن الصندوق، صباح اليوم التالي. لكنّ شيئاً ما يحدث في قبو المنزل، فإذا بمايا، العائدة إلى منزلها للاحتفال مع الأم والابنة، تنتبه إلى الصندوق، الذي ترفض بحدّة أنْ يُفتَح. ألكس تفتح الصندوق خلسةً، فيُصاغ أمام عينيها وعلى مسامعها بعض المخفيّ من سيرة مايا.
شفافية النصّ، بعوالمه المفتوحة على مشاعر وحميميات وقسوة وعنفٍ ورغبات وأعطاب، مشغولة سينمائياً بشفافية تُشبهها. لا تعقيدات في تركيب "دفاتر مايا"، ولا تنظيرات بصرية، ولا اشتغالات تُخرج شفافية النص وعوالمه من حميمية المُراد سرده. فالسلاسة حاضرةٌ في المسار الدرامي، والتمثيل، والتفاصيل الكثيرة، التي تُروى وتُقرأ بهدوء لن تحجب غليان الذاكرة، وغضب المُراهِقة، وجنون البلد.
ببساطةٍ، تُقرِّب النصّ السينمائي من قارئيه ومُشاهديه، تروي مايا، وتقرأ/تسمع ألكس، حكاية تلك الأعوام الماثلة في ذاكرةٍ لبنانية، يريد كثيرون نسيانها، وهذه أسوأ مُصيبة لبنانية. جوانا حاجي توما وخليل جريج ينطران قليلاً إلى هذا الماضي، فيستلاّن منه بعض حميمية وبعض وقائع وبعض مرويات، ليصنعا بهذا كلّه فيلماً جميلاً ومؤثّراً وقاسياً، كتلك الذاكرة التي فيها جمال وتأثيرات وقسوة أيضاً.