"خلل في المصفوفة": إحساسٌ بالاغتراب يعزّز مصداقيّة الوثائقيّ

24 مارس 2021
رودني آشر: هل نعيش في "ماتريكس"؟ (ماوريتسيو كاليرو/ Getty)
+ الخط -

"إذا كنتَ تعتقد أنّ هذا العالم سيّئ، عليك أنْ تجرّب بعض العوالم الأخرى". هكذا عنون فيليب ك. ديك محاضرة ألقاها أمام حشدٍ من معجبيه في "ميتز" الفرنسية، عام 1977. لم يقتصر كلامه فيها على الخيال العلمي، بصفته مجال تخصّصه ككاتب، بل تحدث عن الدين والفلسفة كذلك، فاتحاً كعادته باب الخيال على مصراعيه من أجل فرد. كان يبدو ضرباً من الجنون آنذاك، لكنّ شعبيته نمت ككرة الثلج في العقود التالية.

يرى الكاتب أنّ الكون الذي نعيش فيه عبارة عن محاكاةٍ معلوماتية على الأرجح. فرضية خرجت إلى العلن، كظاهرة تخيّلية ذات صدقية عالية، بفضل "ذا ماتريكس" للأختين واتشوفسكي (المتأثّرتين بشدّة بعوالم ف. ك. ديك)، نهاية تسعينيات القرن الـ20، ما فتح أمامها أبواب دراسة المختبرات المتخصّصة، واستديوهات التصميم الفني، قبل أن تغدو خبراً مُتداولاً على نطاق واسع وأكثر "جدلية"، حين أعلن إيلون ماسك، رجل الأعمال الكندي والمهندس ـ المخترع ذو التأثير الكبير، عام 2016، أنّه يميل إلى تصديقها.

اختار المخرج الأميركي رودني آشر، بعناية، مقتطفات من المحاضرة الغنية لفيليب ك. ديك وتصريحات إيلون ماسك، بالإضافة إلى متدخّلين آخرين، ليجعل هذا كلّه خيطاً ناظماً لفقرات فيلمه الوثائقي الطويل الرابع (2020)، "خلل في المصفوفة (A Glitch In The Matrix)"، حول فرضية المحاكاة المعلوماتية، بعد 9 أعوام على وثائقيّه المدهش "الغرفة 237"، المتمحور حول "ذا شاينينغ (The Shining)" لستانلي كوبريك (1980)، الذي أثار جدلاً كبيراً بسبب النظريات الخلّاقة والجريئة، التي تناولها في تحليل خطاب الفيلم ومعانيه المخفية.

يكمن القاسم المشترك بين الفيلمين في أنّ كلّ واحد منهما يركّز على الخيال لإدراكٍ وفهمٍ، أوسع وأكثر ثراءً، للوجود في الثاني، ولتفكيك تحفة الرعب الخالدة في الأول، باعتبارها مجرّة فنّية قائمةً بحدّ ذاتها.

يُبنى فيلم آشر على أفرادٍ (أسماء بعضهم مستعارة)، يحكون قصصهم على شكل شهادات حول ما أدّى بهم إلى الإيمان المطلق بفرضية العيش في محاكاة. أولهم "براذر ميستوود"، الذي يركز على الصّدف التزامنية (السانكرونية) الصغيرة، كأنْ يتعمّد التفكير في تفصيل صغير كـ"سمكة برتقالية"، بينما يتجوّل في الشارع، فيُفاجأ بعد دقائق برؤية لوحة إشهار إلكترونية تجسّد سمكة برتقالية على واجهة متجر. بعد ذلك، يبدأ بتقفّي آثار هذه الصّدف، فيجد أنّها تتكرّر ـ بشكل دوري ومتماثل مع تصوّره ـ لمدّة أسبوع، مؤلِّفٍ من 12 يوماً عوض الأسبوع الاعتيادي، مُقدّماً مع تقدّم الفيلم تجليات أخرى، أعمق وأكثر إثارةً للحيرة، لهذه الصّدف في حياته.

بوول غود، الشاهد الثاني، يعتقد أنّ أولى دلائل العالم ـ المصفوفة بدأت تتكوّن في عقله منذ طفولته في إلينوي، بسبب المساحات الشاسعة الخالية من أيّ أثر للبشر في بعض أجزاء هذه الولاية، التي رأى فيها "وسيلة مثلى لاقتصاد الزمن والإمكانيات"، عبر عرض مشهد متكرّر للطريق، تعبر وسطها سيارة والده، على طريقة ديكور الواجهات المستعمل في تصوير أفلام الـ"وسترن" (الصورة المعبّرة التي اختيرت كملصق للفيلم)، قبل أن يعرّج على وصف التجربة ـ الكشف، التي عاشها في كنيسةٍ، أثناء حضوره قدّاساً.

 

 

إليهما، هناك ألِكس ليفين، الذي يستغلّ مؤهّلاته (ديبلوم الهندسة الكهربائية من جامعة هارفرد)، ليُفكّر بصوت مرتفعٍ في مدى احتمالية الأمر، بحكم أنّ الحواسيب، كما الهواتف النّقالة، ستستمر في الإفادة من التطوّر التكنولوجي المطّرد، المدعوم بالأموال الطائلة، المخصّصة من شركات ألعاب الفيديو، لتطوير تقنيات الواقع الافتراضي، حتى تصل، يوماً ما لا محالة، إلى مستوى يجعلها قادرة على صنع محاكاة توازي دقتها العالم الذي نعيش فيه، أو تتفوّق عليها. يظلّ سؤال وحيد مطروح: هل نحن نعيش في المحاكاة الأمّ، أم في محاكاة مُنتجة انطلاقاً منها؟ كلّ الدراسات العلمية الرصينة في الموضوع خلصت إلى أنّ الاحتمال الأول ضئيل للغاية، ويقدّر بواحد على مئات المليارات، في أفضل الأحوال.

من أبرز نقاط قوّة "خلل في المصفوفة"، أنّه يحقّق القاعدة الذهبية، القائلة بتناغم الشكل مع المضمون، حين ينسج مَشاهد متخيّلة انطلاقاً من الشهادات على شكل صُوَر ثلاثية الأبعاد. بفضل تقنية التحريك عبر الحاسوب، اختار رودني آشر، عن قصد، أنْ تكون دقّة محاكاتها منخفضة، وذات نَفَس تعبيري قاتم، يصل في بعض المقاطع إلى حدّ التجريد الفني (اقتفاءً لإحساس العبثية إزاء ما يُروى)، كي يوضّح الميكانيزمات الكامنة خلف "خلق" الصّور، ويوحي بالتالي للمتفرّج بأنّ ما يُشاهده هو "محاكاة وسط المحاكاة". هذا التبئير المرآوي يذهب إلى أقصاه بتصوير الشهود أنفسهم على شكل آفاتارات (أسد، ذئب، إلخ.)، تشبه شخصيات ألعاب الفيديو، تصدر عنها حركات دالّة، وتحرّك شفاهها بتناسق مع أقوال الشهود، ما يولّد إحساساً بالاغتراب المستمرّ، يعزّز مصداقية الفيلم وتأثيره.

يلجأ رودني آشر إلى مقدار هائل من الوثائق من مختلف الأنواع: صُوَر (شخصيات تاريخية، مقالات علمية، تغريدات على "تويتر"، إلخ)، لقطات من أفلام (مُقتبسة من قصص فيليب ك. ديك أولاً، ومن "ساحر أوز" و"آفاتار" و"الطابق 13"، وغيرها)، أو من مسلسلات تحريك ("ريك أند مورتي" و"فين وجايك")، مقاطع من ألعاب فيديو ("ماينكرافت" و"سكايريم" و"غيتار هيرو")، فيديوهات لمَشاهد حقيقية من الإنترنت.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

القاسم المشترك بينها أنّها تلغي الحدود بين عوالم الواقع والفانتازيا، يرافق بفضلها حكي المتدخّلين بصور بلاغية، تتجاوز منطق المثال التوضيحي إلى الإيحاء المحفّز للخيال والجدلية، عبر خلق مساءلة ديناميكية لما يُشاهَد في ضوء ما يُقال، والعكس، خصوصاً حين ينبري لأمثلة حافلة بالدلالة من الفلسفة الوجودية لديكارت (مقطع "الشيطان الماكر" من "التأمّلات") وأفلاطون (أسطورة الكهف).

تعتمد الاستجوابات على تقنية الاتصال عن بُعد، ما يخلق مسافةَ بين المخرج والشهود المُحاوَرِين، تجعل من شكل الحوار نفسه نبذةً عن العزلة التي يدفع في اتجاهها تطوّر تقنيات الواقع الافتراضي لألعاب الفيديو الجماعية (البيئة ذاتها في الزمن نفسه)، ويعطي بالتالي لمحةً عن العزلة التي يخلقها الانغماس في هذه التقنيات، حدّ الخلط بين الواقع الافتراضي والحياة اليومية "الحقيقية". هذا بالضبط مرتَكَز الشهادة الصادمة والمحورية في الفيلم، التي تخلق، بفضل تجسيدها الرائع (صورةً وتأثيرات صوتية) على الشاشة، أثراً في النفس يُشبه أفلام الرعب، حيث يحكي جوشيا كوك، الطالب الشاب في جامعة فرجينيا، كيف أدّى به الإيمان المطلق والعميق بفرضية المحاكاة ـ الناجم عن التماهي مع طرح "ذا ماتريكس"، بعد عشرات المَشاهدات وتقليد نمط حياة "نيو" وباقي الشخصيات ـ إلى ارتكاب جريمة قتل مُركّبة بدمٍ باردٍ في حقّ والدَيه، قبل أن يسلّم نفسه إلى الشرطة.

تبقى أهمّ أطروحة حول الفرضية، تلك التي يقدّمها الباحث في جامعة أوكسفورد نِك بولستروم، القائل في ختام الوثائقي إنّها ربما مجرّد إسقاط بشري لشكل التكنولوجيا، المهيمن في عصرنا (الحواسيب) على كنه العالم الذي نعيش فيه، كما كان الأمر مع تصوّر الوجود في شكل أسلاك تجري فيها نبضات عصبية عند اختراع التلغراف. ثمّ تساؤله الملهم عن التكنولوجيات المستقبلية، وهل ستؤدّي بالبشر إلى تحسين قدرتهم على الإدراك، وبالتالي تصوّر فرضيات جديدة حول طبيعة الكون، تقطع بشكل جذري مع نظرية المحاكاة.

لننتظر، ونرَ.

المساهمون