تتّسم أفلام المغربي محمد مفتكر (1965)، على قلّتها، بالدقّة والاعتناء جيداً بالتفاصيل. في جديده "خريف التفاح"، حاول، وإنْ على نحو مُغاير، التطرّق إلى مواضيع وتيمات رئيسية لفيلميه الروائيين السابقين، "البُراق" (2010) و"جوقة العميين" (2015): الأب والسلطة الأبوية والمجتمع الذكوري. هذه حاضرة بشدّة في "خريف التفاح"، بل تكاد تكون محوره الرئيسي.
تكمن المُعضلة المُزمنة في السينما العربية في كتابة السيناريو والحوار، وفي المعالجة ورسم الشخصيات، وهذه حاضرة في "خريف التفاح". أحياناً كثيرة، تبرز عندما يكون المخرج هو نفسه كاتب السيناريو، فتصبح المشكلة أكبر وأكثر تعقيداً، ما يدفع إلى التحدّث عن بديهيات. مثلاً: لا تعني دراسة الإخراج واشتغاله الجمع بينه وبين مهن أخرى احترافية، ككتابة السيناريو. يكفي أنْ تكون الفكرة للمخرج، فيعهد بها إلى سيناريست حِرفيّ. هذه القضية قديمة قِدَم السينما، التي تجاوزتها في العالم إلى حدّ بعيد جداً. السينما العربية لا تزال تئنّ من هذه المعضلة، التي تضرّ مواهب إخراجية، تضيع جهودها هباءً بسبب ضحالة السيناريو والمعالجة وركاكة الحوار وضعف الشخصيات.
مشكلة محمد مفتكر مُركّبة على نحو جليّ في "خريف التفاح"، كاتباً ومخرجاً له، إذْ تُشتّت جهده بين الخروج بجديدٍ، فكرةً وموتيفات وإسقاطات وإيحاءات مُستهلكة؛ واجتهاد جدّي في صوغ قصّته وموتيفاته بجماليات بصرية آخّاذة، تنحو إلى الشاعرية والتأمّل، وتضفي على العمل قوّة وفلسفة. التراخي في إحكام السيناريو ومعالجته جيداً، والإفراط في شَعرنته وإكسابه جماليات قسرية، أفسدا تركيبة "خريف التفاح"، وأدّيا إلى نتاجٍ فقير في الأفكار والخيال، وندرة التنوّع، وضعف التكوينات والأداء والحوار (أحياناً كثيرة)، وانعدام التطوّر تقريباً في أغلب فتراته، المُفتضحة قصّته منذ البداية.
هناك أيضاً بطءٌ غير مُبرّر في الإيقاع، وإطالة لا تتناسب مع القصّة والأحداث والشخصيات. هذا يصنع مشكلة أخرى في السينما العربية: لا رابط، ضرورياً أو حتمياً، بين بطء الإيقاع أو السرد البطيء للأحداث، والعمق الفكري أو التأمّل الفلسفي والجماليات الفنية. هذا النوع من الأفلام مقبلٌ من منطقة أخرى، ويستوجب طرحاً ومعالجة مغايرين كلياً، إذْ ينتفي الشرح ويكثر الإيحاء. والبطء ليس معناه أبداً عدم تطوّر الأحداث والدراما والشخصيات. الفرق بين هذا وذاك كبير وواضح بجلاء في "خريق التفاح". لذا، يسهل جداً أنْ ينفد الصبر، ويتسلّل الملل إلى المُشاهدين، خاصّة أنّ مدّته 120 دقيقة.
تدور الأحداث في مجتمع بسيط، في قرية جبلية يغلب عليه الطابع الريفي، بمفرداته وجمالياته الخالية من أيّ تكلّف، التي يسهل التفاعل معها والاقتناع بها، رغم عدم ظهور أحدٍ في هذه البيئة، باستثناء أسرة واحدة، مع انقطاعٍ تام ومقصود، زمنياً ومكانياً، عن العصر الحديث ومفرداته، وعن المجتمع المحيط بها.
تتكوّن الأسرة من الأب أحمد (سعد تسولي)، جامع الخردة والأجهزة الكهربائية، الذي يغيب كثيراً عن منزله. والدته (نعيمة المشرقي) عصب المنزل، وهي خير جدّة، وحامية ومُدافعة عن حفيدها سليمان (أنس الباجودي) أمام والده، القاسي عليه. تتفانى في رعاية زوجها، المُلقَّب بالجنرال (محمد تسولي)، لتاريخه العسكري، المُقعد والعاجز عن الحركة والكلام. يُصدر أصواتاً تشبه الصراخ، بين حين وآخر. إنّه محور اهتمام الجميع وتقديرهم ورعايتهم.
إلى جوار الأسرة، تسكن الجارة (فاطمة خير)، التي تتمحور حولها قصّة الفيلم ومعظم أحداثه. لها شقيقٌ، عسكري متقاعد (حسن بديدا)، يدين بمعروفٍ كبير للجنرال. هو مسؤول عن خدمة العائلة وتنقّلاتها بعربته الـ"كارو". بحمل الجنرال ويُساعده، كخادمٍ أمين. بالإضافة إلى هؤلاء، يظهر المدرّس الابتدائي (أيوب اليوسفي)، بين حين وآخر. من خلالهم، يطرح محمد مفتكر مفردات الغواية والخيانة والرغبة والخطيئة والشرف، وتتقاطع الحكبة، برمزيّاتها (التفاح، وشجرة التفاح، والأفعى، إلخ.)، مع قصّة آدم وحواء، وبداية الخلق. ثمّ فكرة الأجيال والذاكرة وإرث الماضي وتبعاته على الحاضر.
رغم قلّة الشخصيات وبساطة الحبكة، ينشغل "خريف التفاح"، إلى حدّ الغرق، بقصّة الخيانة المُفترضة بين المُدرّس والجارة، طليقة أحمد، ووالدة سليمان، الذي قيل له إنّ والدته ماتت غرقاً وهو صغير. لاحقاً، يُدرك سليمان الحقيقة، ويفهم سبب قسوة والده غير المُبَرّرة تجاهه، ورفضه الاعتراف بنَسَبِهِ، ومُناداة سليمان له بـ" يا أبي". لا يهتم السيناريو بتوضيح مدى تورّط أو براءة الأم في الخيانة الزوجية المُفترضة من جانب أحمد. بالإضافة إلى تجاهل، أو عدم الاستغلال الجيّد لخيط مهم للغاية، يخص العلاقة الثلاثية بين الجدّ والأب والحفيد.
في "خريف التفاح"، مَشاهد فنية لافتة للانتباه وجيّدة، تُحسَب لمحمد مفتكر. كذلك، هناك رؤيته البصرية المتميّزة، المُتجلّية في أكثر من موضع، عبر اختياره مناظر وزوايا محدّدة للتصوير، وتوظيف الإضاءة في أكثر من مشهد. لكنّ الفيلم محتاج إلى مونتاج كثير، لحذف مَشاهد ضعيفة عدّة، أثَّرَت سلباً على الجيّد منها. اختيار الممثلين موفّق، إلى حدّ بعيد. أما الأداء والإلقاء البارد الخشبي، فمردّهما غالباً إلى ضعف الحوار وركاكته. مع هذا، فإنّ اختيار أنس الباجودي في دور سليمان موفّق للغاية.