"خديجة" لمراد مصطفى: أداءٌ يكشف مُخبّأ

02 فبراير 2022
خديجة (ملك طارق): البحث عن خلاصٍ (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تُحاول خديجة (ملك طارق) العثور على منفذٍ، يُنقذها من ألمٍ ومتاهة وضغط. تحمل على كتفها رضيعاً، لن تتّضح ملامحه دائماً. تريد فنجاناً من القهوة. تتحدّث إلى والدتها على هاتفها الخلوي. تخرج إلى مدينتها، القاهرة. الضجيج كثيرٌ ومزعج. فيه شيءٌ من أذيّةٍ أيضاً. تمشي قليلاً. تستقلّ باصاً صغيراً. تزور شقيقتها، ثم والدتها. في لحظةٍ ما، ترتكب فعلاً تظنّه خلاصاً لها، أو تنفيساً عن كَبْتٍ. هناك رجلٌ مُعوَّق أمام شاشة التلفزيون، في منزل الوالدة، التي تعرض أمامها ملابس عدّة لرضيعها.

تفاصيل كثيرة تحصل في "خديجة" (2021، 20 دقيقة)، للمصري مراد مصطفى (1988)، كالحاصل في فيلميه القصيرين، "حِنّة ورد" (2020، 23 دقيقة) و"ما لا نعرفه عن مريم" (2021، 25 دقيقة). الحضور الطاغي للمرأة مشتركٌ أساسيّ بينها. حضور كامل، رغم ظهور عابر لرجلٍ، يكون له دورٌ ضئيل في تبديل مسار حدثٍ، أو في إضفاء مزيدٍ من ضغطٍ. في "خديجة"، رجلٌ واحد يبقى صامتاً لثوانٍ قليلة. المرأة تملأ الفضاء العام، وتواجه تحدّياتٍ، معظمها متأتٍ من نساءٍ مثلها. التحدّيات المفروضة عليها من الرجل تظهر موارَبةً، فالاجتماع وقواعده، والسلوك في العلاقات ومفرداته، والتربية وأدواتها، تتشكّل تدريجياً في سياقات درامية، يتفنّن مراد مصطفى في إبرازها غير المباشر.

في الأفلام الثلاثة، تعاني المرأة، رغم مظاهر ودّ في التعامل معها أحياناً، قبل انقضاضٍ عليها (حِنّة ورد). أمرٌ يحصل في مستشفى، يكون لحظةً أخيرة لخروجها من المشهد (ما لا نعرفه عن مريم). عنف الاجتماع ـ المتمثّل بتفاصيل كثيرة تنكشف، شيئاً فشيئاً، في سيرة خديجة ـ سببٌ لارتكابها فعلاً مليئاً بقسوة وخرابٍ وقهرٍ. الكاميرا المُرافقة لها (مصطفى الكاشف) تلتصق بها إلى حدٍّ يوحي كأنهما، خديجة والكاميرا، كائن واحد. التوليف (محمد ممدوح) يتناغم وقسوة موقف، وضجيج حالة، وارتباك ذات وروح، والفعل الذي يذهب فيه مراد مصطفى إلى ذروة الانكسار والحُطام، اللذين تعاني خديجة ثقلهما.

 

 

النسق الهادئ، ظاهرياً، في "حِنّة ورد" و"ما لا نعرفه عن مريم"، يُكمِل اشتغاله المُخادِع، قبل كشفه تلك اللحظة التي تدفع المرأة إلى فعلٍ يعكس رغبةً حادّة في خروجٍ نهائيّ من حالةٍ أو علاقةٍ أو مناخٍ أو بيئةٍ أو اجتماعٍ. مريم (دعاء عريقات) مجروحةٌ في روحها، والجرح أكثر وجعاً من ألم الجسد، ما يجعل الاختفاء إيهاماً بخلاصٍ، أو تعليقاً ملتبساً (وجميلاً) لسياق حكايتها. المرأة السودانية (حليمة)، صانعة الحِنّة، تُستَقبل بحفاوةٍ، فالليلة عرسٌ، والعروس وناسها يعرفون براعتها في مهنتها. تأتي حليمة رفقة ابنتها. كلّ شيءٍ أليفٌ وساكنٌ (رغم صخب جميل، فالعرس قريبٌ والفرح يعمّ الجميع)، قبل حدوث فعل يقلب الأمور كلّها إلى النقيض، فينفجر كلّ شيءٍ، ويتعطّل كلّ شيءٍ. لخديجة لحظتها أيضاً، فالمحيط المُقيمة فيه قاسٍ ومؤذٍ، وفعلها العنيف ردٌّ على خرابٍ، لن تعثر على غيره في عالمٍ موحش ومتسلّط ومُدمِّر.

البساطة في الاشتغال السينمائي عاملٌ أوّل في صُنع الأفلام الثلاثة القصيرة. هذا يعني أنْ لا ادّعاءات ولا تصنّع في إنجازها، بل تكثيفٌ درامي، ووضوح كتابة، وسلاسة إخراج وتمثيل. بساطةٌ توحي بدلاً من قولٍ مباشر، وتُحْدِث صدمة في لحظةٍ ما، بعد أنْ توهم بنقيض ما سيحصل، رغم وطأة القسوة والتعب والضغوط، الظاهرة في ملامح حليمة ودعاء عريقات وملك طارق. لحليمة استثناء، فالملامح تخضع لتصوير (زيزو) يجعلها شبه غائبة، فالمرأة منشغلةٌ بتحضير الحِنّة، والوجه منخفضٌ قليلاً، والكلام الجميل تعبيرٌ عن مجاملاتٍ، قبل "انقلاب الأقدار" عليها وعلى ابنتها. ملامح خديجة ومريم أوضح في تعبيرها عن ثقلٍ يوميّ في حياةٍ قلِقة. أداؤهنّ جميعاً أصيلٌ في انعكاس الثقل والقلق والتأثيرات التي تعاني شخصياتهنّ تداعياتها عليهنّ.

يُكمِل "خديجة" ـ المُشارك في الدورة الـ44 (28 يناير/كانون الثاني ـ 5 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان الأفلام القصيرة في كليرمون فيرّان (فرنسا)" ـ مساراً إخراجياً، يشتغل مراد مصطفى على بلورة نسقه الجماليّ والدرامي والفني، باعتماده على قصص حيّة لنساء مُقيمات في جحيم الأرض. مسارٌ حاضرٌ في "حنّة ورد" و"ما لا نعرفه عن مريم"، المُشاركين أيضاً في المهرجان نفسه في دورتي العامين 2020 و2021، يقول (المسار) إنّ صناعة فيلمٍ قصير تمرينٌ على اختزال بصريّ لأوجاعٍ وتفاصيل وانهيارات، بلغة الصورة أساساً.

المساهمون