"حلاقة مدرسية" لفَريت كاراهان: أطفالٌ هواة يصنعون جمالاً سينمائياً

30 ابريل 2021
"حلاقة مدرسية": نصٌّ سينمائيّ رائع (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

تبدو المدرسة الداخلية، الواقعة في أقصى شرق الأناضول، كأنْ لا صلة لها بالمكان. بناية مؤلّفة من طوابق قليلة، مُضاءة ومُحاطة بأكوام من الثلج. كلّما ابتعدَتْ الكاميرا عنها، بدَتْ أكثر عزلة عن محيطها. وعندما تحرّكَتْ نحوها، وجدَتْ جوّاً متوتّراً فيها، نقلته بحذر. ضحكات التلاميذ الصغار ومرحهم في ممرّاتها يُعاكس خوفاً من معلّميهم ومراقبيهم. بقاؤها هناك يفتح مجازاً سردياً، يكفي لاحتواء حكاية جرت حيث هي، بدت بسيطة في البداية، لكنْ تراكمت طبقاتها سريعاً، وغدت أكثر تعقيداً.

حكاية مرض مومو، الطالب في "مدارس الحدود"، الخاصّة بتعليم أعداد قليلة من الأطفال الأكراد، ما كان لها أنْ تُصبح فيلماً بعنوان "حلاقة مدرسية" (2021) لفَريت كاراهان (1984)، لولا أسلوب كتابتها، الموارب والمخاتل (سيناريو غوليستان أَسَت مع المخرج نفسه)، الناشد ارتقاءً سردياً بصرياً، يضع حدوداً دقيقة، وخيوطاً عازلة غير مرئية، لإبقاء الموضوع الكردي في تركيا بعيداً عن مركزها. يُقرّبه أحياناً من بؤرتها، كلّما احتاجت الحكاية إلى جرعات حادّة، يُقارب بها مُتَراكَماً دفيناً لمشكلات وتعقيدات عرقية وقومية، ولسلوكيات أفراد جُبلوا على فكرة التفوّق والتحكّم.

وجود المدرسة الداخلية وصرامة قوانينها تعبّر عنها، وعقوبة حلاقة رأس الطالب المذنب، عنواناً فرعياً لها، يتّخذه الفيلم عنواناً له بالتركية: "حلاقة مدرسية"، الأقرب والأكثر تعبيراً عن المعنى الداخلي للحكاية، من الاسم التجاري Brother’s Keeper، المُشارك في قسم "بانوراما"، في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/آذار 2021، والحائز فيه على جائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبرسي)".

في اليوم الوحيد من الأسبوع لاستحمام الطلبة الصغار، تتعالى صيحاتهم ومشاكساتهم. في إحداها، تخاصم طفلان على قطعة الصابون الوحيدة. أزعجت صرخاتهما المراقب، فقرّر معاقبة أحدهما، ميمو (الممثل الهاوِي نورالله ألاكا)، بحرمانه من الماء الساخن، وتكملة استحمامه بماء بارد. في المساء، شعر بوعكة، فاهتمّ به زميله يوسف (سامِت يلدز). في صباح اليوم التالي، نقل خبر مرضه إلى معلّمه، الذي لم يأبَه بالأمر. تدهور صحّة التلميذ قاعدة تأسّست عليها وتراكمت أبعاد علاقات مختلّة بين إدارة المدرسة وتلاميذها. في الجوهر، هناك اختلالات وتراكمات صراع تاريخي عميق. من طياتها، وكنتاجٍ لها، يتأتّى الحذر الشديد ليوسف، ومن الجو العدائي الذي يحيط به، وخوفه الدائم من الوقوع في شراكه.

العلاقة بين معلّمي المدرسة الداخلية، وجُلّهم من خارج المنطقة، وطلاّبهم، تسلطيّة وقهرية، يسودها إحساسٌ بتفوّق المعلّمين، وأفضالٍ لهم مُقدّمة منهم إلى أطفالٍ أكرادٍ، لولا مدرستهم/ سلطتهم لكانوا ـ في أحسن الأحوال ـ رعاة ماشية حفاة فقراء، لا فرصة لهم لتكملة تعليمهم، وتحسين أحوالهم. هؤلاء الأسياد ـ في التفاصيل الملتقطة بعين سينمائية حسّاسة، تعرف جيداً المكان وخصوصيته (المخرج من أبناء المنطقة الكردية، عاش تجربة مدارس الحدود في طفولته) ـ يشعر التلاميذ باغترابٍ، وبثقل مسؤولية وأعباء غير لازمة، فجّرها مرض ميمو. لا أحد منهم يريد الالتفات إلى أمر تلميذ، وُضع في غرفة مهمَلة، سُمّيت مستوصفاً، لا يتوفّر إلاّ على أقراص تخفيف أوجاع الصداع.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الوحيد الذي يحفّز، عنوة، ضمائرهم، ويجعلهم يتحرّكون من دون رغبة منهم، هو يوسف: صبيّ متماسك في داخله، وعنيد في مطالباته، ودقيق في تصعيدها. بفطرة المختلف الحذر، ينتزع من إدارة المدرسة اهتماماً بطفل، دخل في غيبوبة ولا سبيل لنقله إلى المشفى، لأسبابٍ يتّخذ فَريت كاراهان من روح كتابات التركي عزيز نيسين، الساخر والجاد بنقده السياسي والمجتمعي اللاذع، وسيلةً لتجسيدها سينمائياً، مستعيناً بمُصوّر رائع (توركسوي غولَبي)، يجيد اختيار موقع تثبيت كاميرته دائماً. في الصفوف، وبين المقاعد، يأخذ المكان المناسب لنقل حوارات عفوية بين التلاميذ ومعلّميهم، تلفّها غالباً السخرية المتأتية من اختلاف رؤى، وجهل طرف مريع بالمكان الذي يجمعهم. يختار غولَبي زوايا تصوير صعبة في مكان مغلق.

يجعل "حلاقة مدرسية" من الكوخ/ المستوصف مسرحاً، يؤثّثه بما يكفي للجمع بين السخرية والوجع والخوف. عبرها، يُعلن مأزق تربية عسكرية هرمية، تتعكّز على أوهام تفوّق مُتراكمة، تنهار حال مواجهتها أسئلة مستعصية، كحالة التلميذ المريض، وعملية نقله المستعجلة. التهرّب من المسؤولية، كلّما زادت حالته الصحية تدهوراً، يُوصِل إهمالاً وفساداً بنيوياً: سيارة النقل الخاصة بالمدرسة غير موجودة، لأنّ سائقها ذهب لشراء جبن طيّب للمدير من القرى البعيدة. ضعف تغطية الشبكة في شرق الأناضول يُعيق التواصل مع أطباء المشفى. الماء البارد، الذي استحم به التلميذ المُعاقَب، كان متجمّداً، لعطلٍ في الأنابيب لم يتمّ إصلاحه.

المهمّ في هذا كلّه أنْ لا أحد يُناقش أمر العقوبات الصارمة والمهينة. هاجس التركيز على المشكلة وحلّها، لا البحث في أسبابها، سائدٌ. هذا ينقله نصٌّ سينمائي رائع، تشارك في تحقيق مستواه أطفال هواة، أدّوا أدوراهم بما يكفي لنسيان خلفياتهم، والذهاب معهم إلى آخر المشوار، حيث يظهر يوسف مُعاقَباً بحلاقة شعر وسط رأسه.

قطعاً، لن يُسمح له، وسط كلّ ذلك السوء، بأنْ يكون شاهداً نزيهاً على فساد. تلويث الجميع بالمعاصي والذنوب هو القانون الوحيد الذي يحمي الأسياد من مساءلة الضمير.

المساهمون