ذهب المخرج والفنان التشكيلي باسكوال سيستو، في أول تجربة سينمائية له بعنوان "جون والحفرة" (روائي طويل، 2021)، إلى مساحة معقّدة وصعبة جداً، تتمثّل في الحدّ الفاصل بين مرحلتي الطفولة والمراهقة، أي الفترة الزمنية التي تحدُث فيها تقلّبات جسدية ونفسية مهمّة للفرد، فيتعرّف عبرها على عالمٍ جديد لم يألفه، ولم يكن مستعداً له كما ينبغي، لنقص المعطيات والتحضير النفسي الجيد من الأسرة القريبة منه والمحيطين به.
تبدأ مغامرات "الطفل المراهق" مع تصرّفات لا يُقدِّر عواقبها. في حالة جون (تشارلي شاتويل)، في فيلم سيستو، الأمر مختلف، لأنّه اقترب كثيراً من حالة الفعل الإجرامي، أو الاستعداد النفسي ـ الجسدي لارتكاب الجريمة، ليعيش مرحلة البلوغ واكتشافها، كما ينبغي، بروح مستقلّة، بعيداً عن الأسرة وسلطتها التي تحدّ الحرية وروح التجريب والاكتشاف، بحسب تصرّفاته. لذا، خدّر جون عائلته ـ والداه براد (مايكل سي. هال) وآنّا (جينفر إلْ)، وشقيقته لوري (تايسا فارميغا) ـ قبل رميهم جميعاً في حفرة (قبو) قريبة من البيت الذي يعيشون فيه.
انطلاقاً من هذا الجُرم، اقتطع جون لنفسه مساحة شاسعة من الحرية الظرفية، متجوّلاً فيها وفقاً لسياقه الخاص، وتفكيره الشاذ والمختلف. يعيش لحظة المراهقة كما تخيّلها، وفي الوقت نفسه تعيش عائلته في الحفرة، جوعاً وبرداً، تحاصرهم الأسئلة المرهِقة عن أسباب تصرّفاته التي تصدر عادة عن مُجرمين ومضطربين نفسياً.
يعكس جون (13 عاماً) ملامح باردة وقاسية وكئيبة. صفات قدّمتها السينما للإشارة إلى السفّاحين والقتلة المتسلسلين، استناداً إلى نظريات علماء النفس وسلوك المجرمين. شحنت هذا الإحساس وراكمته موسيقى جنائزية (الإيطالية كاترينا باربياري)، هيّأت المُشاهد، الذي بات يعتقد أنّ هذا الطفل قادر على قتل أفراد عائلته، وأنّه سيفعل هذا في لحظةٍ ما، فتضاعفت جرعة الإثارة والترقّب، وازداد الضغط على ما سيحدث لاحقاً.
ما كان هذا الشعور ليكون حادّاً ومؤثّراً لولا الأداء المميز للممثل تشارلي شاتويل (14 عاماً)، الذي له تجارب سابقة، كما في Man Down لديتو مونتيال (2015)، و"كابتن فانتاستِك" (2016) لمات روسّ، وThe Glass Castle لداستن دانيال (2017). اختبارات أهّلته لتقديم تجربة تمثيلية بهذا العمق والنضج، أوحى للمُشاهد أنّ بوسعه قتل أسرته بدم بارد، وهذا مُنتظر بسبب معطيات حدثت. أداء نابعٌ من إدارة سيستو، الذي استطاع استخراج تلك الطاقة والأحاسيس من الممثل الطفل.
ابتعد باسكوال سيستو عن التهويمات المُرهِقة، وخطوط السرد المتشابكة والكلاسيكية، التي تولّد عادة أحداثاً متوقّعة، بسبب تكرار القوالب في أفلامٍ، تنطلق من اضطرابات نفسية بحالاتها المتعدّدة. معطيات متوقّعة، تغلق التأويل باكراً. في "جون والحفرة"، الوضع مختلف، بدءاً من العنوان المباشر، الذي لا يفتح أي أفق للتفسير، وسيعرف المُشاهد هذا المعطى في المشاهد الأولى، عندما يعثر جون في الغابة القريبة من بيته على حفرة/ قبو. كما ابتعد عن ثنائية الفعل وردّ الفعل، التي يولّدها الحدث المنطقي: عندما رمى جون أفراد عائلته في الحفرة بدم بارد، يُتوقّع أنْ يحصل هذا كردّ فعل إزاءهم لسوء معاملتهم معه؛ أو لعدم تلبية رغباته. لكنّ جون يعيش حالة رفاهية، فلديه منزل واسع ومزوّد بضرورات الحياة، وفيه حديقة كبيرة ومسبح، ووالده أهداه طائرة "درون" باهظة الثمن من دون مناسبة. وعندما أخبرهم جون، على مائدة الطعام، أنّها ضاعت منه، لم يُظهر والده أي ردّ فعل عنيف وغاضب، بل تقبّل الأمر بشكل عادي. هذا يدل على أنّ جون يعيش حياة عادية، وأكثر من هذا فهو مدلّل، تُلبّى رغباته كلّها.
رغم هذا كلّه، ارتكب فعلاً جُرمياً، ربما لأنّه حصل على كل ما يريد، وأراد اختبار أشياء جديدة، وربما يعود الأمر أساساً إلى الرفاهية المُبالَغ بها، التي تقتل هامش الاكتشاف لدى الطفل.
محى سيستو السردية التقليدية، التي يكون فيها مرتكب الجريمة، مهما بلغ عمره، شخصاً غير سوي، تمّت معاملته بطريقة سيئة، أو تمّ تعنيفه. هذا لم يحدث لجون، الذي لديه قابلية للإجرام.
من ناحية أخرى، تُطرح أسئلة عدّة: ما الذي كان يبحث عنه جون، ويريد تحقيقه؟ هل يريد فعلاً تجريب حياة الكبار، كما تصرّف عندما طلب من صديقة والده أنْ تبقى معه تلك الليلة في البيت، أو عندما سألها عن شعورها وهي في سنّ الـ50؛ أو من خلال قيادة السيارة وسحب المال من المصرف؟ أو كان يبحث عن السيطرة والسلطة، كما تُظهره طريقة وقوفه عند مدخل الحفرة، حين يرمي الطعام والماء إلى عائلته؟ ماذا عن الأسئلة الغريبة التي يطرحها على والدته، كسبب اختلاف زرقة ماء المسبح عن زرقة ماء البحر؟ بالإضافة إلى أسئلة أخرى، لم تجد الأم إجابة منطقية عليها، فكانت تتجاهله كي لا تذهب معه بعيداً في التفكير.
كتب سيناريو "جون والحفرة" نيكولاس جياكوبون، الفائز بـ"أوسكار" أفضل سيناريو أصلي عن "الرجل الطائر" (2014) لأليخاندرو غونزاليز إيناريتو (النسخة الـ87، 22 فبراير/ شباط 2015). رغم الجوائز الكثيرة التي نالها، قدّم سيناريو فيه ثغرات عدّة، أهمّها القيمة الفنية أو الفلسفية، التي يريد إيصالها عبر قصّته. بالإضافة إلى تركه أسئلة معلّقة، تحتاج إلى تفسيراتٍ درامية: القصّة المقحمة والموازية للحبكة الأصلية، المتمثّلة في علاقة الأم (جورجيا ليمان) والابنة (سامانثا لوبروتون)، التي يروي فيها حكاية مُعقّدة عن أمّ تترك ابنتها وحدها في البيت مع مبلغ من المال، لتعتمد على نفسها في العيش، رغم أنّها طفلة. تركتها تتجوّل في الغابة وحدها، كأنّها قامت بما لم يقم به جون، عندما أنزل سلماً لعائلته كي تصعد من الحفرة. في هذه الحالة، لا تُقدِّم القصّة المقحمة (أوحى الفيلم أنّ الأمّ تروي لابنتها قصّة "جون والحفرة") أيّ تفسير يُعين القصّة الرئيسية. لذا، ما جدواها؟
في المقابل، استطاع سيستو وجياكوبون خلق تكثيفٍ بصري مهمّ، ولغة سينمائية قوية، تخلّيا فيها عن كلامٍ كثير، وجعلا من الصُور أداة مهمّة لنقل المعاني، ونقل الأحاسيس. اداة غنية باللغة السينمائية، خصوصاً زوايا التصوير، الخارجي منها، وسط الغابة والحديقة تحديداً.
"جون والحفرة" فيلم مهم، من تلك الأفلام التي تقتصد في الحكي، وتسعى إلى فكرة تشير بها إلى منطلق حياتي معين، وإنْ كان مُبهماً إلى حدّ ما. لكنّه فيلمٌ يُحذّر من التصرّفات التي تحدث في حالة عدم فهم وقراءة المساحة الفاصلة بين الطفولة والمراهقة، ويحرّض على الإحاطة بها، لمنع أي حادثة يمكن أن تقع في أي أسرة مستقبلاً. لامست إدارة مهرجان "كانّ" السينمائي أهميته، فاختاراته في برنامجها الرسمي للدورة الـ73، التي كان مُقرّراً تنظيمها بين 12 و23 مايو/ أيار 2020، قبل إلغائها بسبب كورونا، علماً أنّه شارك في مهرجانات سينمائية مختلفة، بعد عرضه الدولي الأول في الدورة الـ37 (28 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2021) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي".