تُحذّر الراهبة الأمّ تابعتها الشابة من قول الحقيقة، وما تشعر به. "إذا فعلتِ، سيُدمّرونكِ. حتّى أنا لن أقف معك". الشابة لم تؤمن لحظة بما تزعمه الراهبة "بينيدتا" من ظهور المسيح لها، ومن حقيقة جروح أو علامات الصليب على جسدها. أرادت أنْ تُبلّغ الهيئات الدينية العليا بشهادتها.
هذا المشهد أصدق المواقف وأكثرها حقيقة، في فيلم "بينيدتا" (2021)، للهولندي بول فيرهوفن، المصنوع بأموال ولغة فرنسية، والمُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي. الحقيقة عن فيلمٍ لمخرج مشهور جداً ربما لا تكون مأمونة العواقب. طولٌ (127 دقيقة) وافتعالٌ، وأحياناً إثارةُ مشاعر مشابهة لما يُشعَر به عند مُشاهدة فيلمٍ هندي بوليوودي، مليء بالصدف والصراخ والمواقف، وبأحداثٍ لا معقولة وعواطف مُفتعلة، حتّى لا يُقال إنّها كاذبة.
عام 1599، وطأت قدما بينيدتا (الفرنسية فيرجيني إيفيرا)، وكانت في التاسعة من عمرها فقط، دير بيسشيا في توسكانا. في ظلّ هذا المبنى الحجري الصارم، طوّرت الشابة الإيطالية علاقة خاصة جداً مع ربّها، ألحقتها برؤى تتعلّق بالمسيح. كانت تدّعي تواصلها معه، إلى درجة أنّها كانت تنطق بغتةً بصوتٍ ذكوري مُنفر، كأنّها مُتقَمَّصَة، في مواقف تُشعرها بخطر عدم تصديقها وإدانتها من الآخرين في الدير. في أحلامها، لم يكن المسيح فقط من يدعوها إلى التقرّب منه، فالشياطين أيضاً كانت تُهاجمها وتُطاردها على شكلِ مخلوقاتٍ غريبة وثعابين. هذا كلّه كان يُصيبها بنشوة جسدية طاغية، تلمّست قوّتها الحسية مع وصول بارْتُلُمِيا (البلجيكية اليونانية دافني باتاكيا)، الشابة الفقيرة والجريئة، إلى الدير.
في أسلوبٍ لا يوصف بالمنطقيّ والمقنع، اقتحمت بارْتُلُمِيا الدير هاربةً من أبّ وحشي مُستغلّ، واختارت بينيدتا ـ يا للصدفة ـ من بين جميع من كان هناك، ومنهم الراهبة الأمّ فِلِسيتا (البريطانية شارلوت رامبلِنغ)، لترتمي تحت قدميها طالبةً النجدة. لم تضيّع وقتاً قبل أنْ تبدأ ملامستها والالتصاق بها بطريقة جريئة. وجد فيرهوفن ذلك مُجدٍ لأسبابٍ لا يعلمها غيره. لعلّه أراد الوصول مباشرة إلى ما يُشغله، وتحقيق أحلام بينيدتا بممارسةٍ جنسية، طالما حلمت بها على طريقتها. لم يتحقّق الأمر تدريجياً، بل فوراً، وبنحوٍ عنيف، مع مَشَاهد جنسية متكرّرة وفجّة وطويلة بين الفتاتين. مَشاهِد قدّمها المخرج أحياناً بسخريةٍ، أُرِيد منها الإضحاك، لكنّه لم ينجح تماماً (نحتت بارْتُلُمِيا تمثالاً للمسيح بطريقة أصبح معها أداة جنسية).
تحوّل الفيلم إلى شريطٍ طويل، يمزج بين رؤى بينيدتا، الفانتازية والدينية والجنسية. أي بين رغباتها الجسدية الطاغية وإحساسها الدينيّ الملتهب. إحساس منحها اعترافاً بها، وسلطةً بدت مطلوبة منها، لتأخذ مكان الراهبة الأم.
ما قدّمه فيرهوفن كان بعيداً عن التاريخ، الذي تعامل معه بطريقة مُستفزّة. هو حرّ في أدواته وتناوله للموضوع، شرط الإقناع. لكنّه ـ بإسقاطه نظرته الحالية للدين والمثلية الجنسية على القرن الـ17، حين تدخل الراهبةُ الدير ناذرةً نفسها للعفّة والطاعة ـ بالكاد يُقنع المُشاهد بالطريقة التي تعامل بها مع الموضوع، بكلّ ما فيها من "كيتش" ومُبالغة وتحريض.
بول فيرهوفن (83 عاما) مُهتمّ بقضايا المرأة. استوحى قصّته من رواية "أفعال غير محتشمة ـ حياة راهبة مثلية الجنس في زمن النهضة في إيطاليا" (1986)، للأميركية جوديث سي براون (للترجمة الفرنسية عنوان آخر: "الراهبة بينيدتا، بين القداسة والمثلية الجنسية"، 1987). يقول عن فيلمه إنّه "روائيّ، لكنّه حقيقيّ بنسبة 80 بالمائة". المُشكلة أنْ لا شيء يُقنع بهذه الحقائق، إذْ يبدو كلّ شيء مُصطنعاً. كأنّ فيرهوفن "ركّب" مواقف لتخدم أفكاره فقط، لا لتخدم القصّة أو الشخصية. يُبدي المعتقدات بشكلٍ ساخر ومُضحك، ويلعب على فكرة الشكّ، التي يزرعها في أذهان مُشاهديه، حول "قداسة" بينيدتا، بطريقةٍ سطحية وهازئة، تظهر فيها بطلته، لا سيما حين تنتابها حالة التقمّص.
في أسلوب المعالجة، يبدو الفيلم كأنّه تهريجيّ، رغم أنّه ليس كذلك، بل "دراما تاريخية"، كما أُعلن عنه. لا يتعلّق الأمر بإدانته ما يجري في الأديرة والكنائس، وهذا موضوع قديم لا جديد فيه، ومعاملة الكنيسة لمدّعي الرؤى، أو المثليين/ المثليات؛ بل في أنّ فيرهوفن يتعامل مع الدين والمثلية بشكلٍ استفزازيّ مُتعمَّد ومُدّعٍ، ولا يدعو ـ بمعالجته ـ إلى التأمّل. أسلوبه الإخراجي لا يسمح بإعادة النظر في هذه القضايا، بسبب السرد الطويل المملّ، والمواقف الساخرة من الكنيسة وممثليها، ومَشاهد التعذيب المتعدّدة؛ كما في إدارة الشخصيات التي يبدو معظمها "ديزني لانديّة" (خاصة بينيدتا وممثل البابا).
يحضر موقف الراهبة الأمّ فِلِسيتا، حين تهرع إلى لقاء ممثّل البابا (الفرنسي لامْبَر ويلسن) قاطعةً المسافات من توسكانا إلى فلورنسا، لتكشف له مثلية بينيدتا وخداعها. في المشهد، يكشف فيرهوفن التناقض بين عيش ممثّل البابا، المُرفَّه وغير المكترث، وما يجري في الخارج، حيث الجثث الملقاة، والناس المحتضرين، والطاعون يكتسح ايطاليا؛ بينما يتناول طعامه بلذّة، مُعلّقاً على انتفاح بطن خادمته (ايحاء، ربما، إلى كونه الفاعل) لتقوم هي برشّ حليبٍ معصور من ثديها على الجميع.
مثلٌ من بين أمثلة كثيرة غيره، تبدو فيه سوقيةً وثقلاً وغَلظَة، بعيداً عن أيّ كوميديا. مثلٌ كغيره لا يُثير ضحكاً ولا يُدين أحداً أو شيئاً. لذا، يُسأل عن ضرورته، إلاّ إذا كان هدفه إظهار فكرة بول فيرهوفن عن أهل الكنيسة، مرّة أخرى. الأسوأ أنّ فيرهوفن أعطى فيرجيني إيفيرا، الممثلة الأكبر والأشهر والأهمّ أداءً حالياً في السينما الفرنسية، أسوأ أدوارها، فلم تتمكّن من جعل المُشاهد يُعنى بأمر بينيدتا، وبمصيرها وآلامها، أو يهتمّ إنْ كانت قداستها حقيقية أو كاذبة.