لـ"بريد القرّاء" في الصحافة المطبوعة ركنٌ أساسيّ، فالمطبوعة الورقية تعتمد على قرّاء لزيادة أرباحٍ تحصل عليها من البيع والإعلانات. هذا كلامٌ يُفترض به أنْ يكون مهنيّاً، لكنّ كثيرين وكثيرات يُدركون أنّ مصدراً أساسياً لجزءٍ كبير من المال، أو لكلّه أحياناً، يتمثّل بمؤسّسات أو جماعات أو شخصيات تملك ثرواتٍ متفاوتة الحجم.
في الغرب، هناك شركات تستحوذ على المطبوعة كلّها، أو تملك أسهماً فيها، تؤهّلها للسيطرة عليها. في الدول العربية، يندر أنْ تعتمد مطبوعة على قرّاء، رغم أنّ صحفاً عربية عدّة تطبع، يومياً، آلاف النسخ. الغالبية الساحقة من الصحف الورقية العربية تابعة لأنظمةٍ حاكمة، وفي لبنان تُرهَن لشخصياتٍ نافذة، تتبع مرجعيات خارجية، غالباً. هذا قبل انتفاء المهنة وقواعدها وأخلاقياتها، كلّياً، عمّا تبقى من صحفٍ، لبنانية وغير لبنانية، حالياً.
رغم كلّ شيءٍ، لـ"بريد القرّاء" رونقه وحضوره في مطبوعات مختلفة، عربية (سابقاً) وغربية. "دفاتر السينما" الفرنسية تستعيد هذا البريد منذ عددها الأخير (فبراير/شباط 2022)، بتقديمٍ عاديّ للغاية، يقول إنّ البريد عائدٌ إلى المجلة، ويدعو الجميع إلى إرسال كتاباتهم المتعلّقة بالأفلام والسينما، وبردود أفعالهم إزاء نصوصٍ منشورة في المجلة. صفحةٌ واحدة فقط (20 بـ27 سم.) تُخصّص لقرّائها، لقول رأي نقدي في مسائل سينمائية مختلفة.
الحجم والصفحة الواحدة غير كافيين، فللمجلة مكانةٌ نقدية وثقافية وفكرية، ودورٌ في إثارة نقاشات في السينما، وفي كلّ ما يُحيط بها من فنون وفكر وآداب وعلوم إنسانية واجتماعية واقتصادية، ومن تقنيات تتطوّر عاماً تلو آخر، وتستفيد منها صناعة الأفلام وآليات المُشاهدة. الحجم والصفحة الواحدة غير كافيين، مع أنّ عدد قرّاء المجلة غير متوافق ومكانتها النقدية، وغير منسجم والهاجس الفرنسي بالسينما وعالمها المتنوّع، وغير متكامل ورغبة الفرنسيين في النقاش والتفكير (12 ألفاً و928 نسخة مطبوعة في 2020 و2021، منها 9859 نسخة مُوزّعة في فرنسا، بحسب الموقع الإلكتروني للمجلة).
رغم هذا، يُستعاد "بريد القرّاء"، الذي سيكون حيّزاً لمتابعةٍ، متواضعة، لتفكير مُشاهدين وقرّاء، يُواكبون نتاجات السينما، ويطّلعون على أحوال الفن السابع، ومساراته واختباراته وتأثيراته وتأثّراته. التجارب السابقة ـ في "دفاتر السينما"، وفي غيرها من المجلاّت السينمائية الفرنسية، وأبرزها "بروميير"، المتوقّفة عن نشر "بريد القرّاء" منذ وقتٍ ـ شاهدةٌ على حيوية كتابة ونقاشٍ وتحليل، وعلى كيفية المُشاهدة والتنبّه إلى تفاصيل وجوانب، تتساوى بأهميتها مع النواة الأساسية للنتاج. في "بريد القرّاء"، سابقاً، تعليقات عدّة تبلغ، أحياناً، مرتبة النقد التحليليّ لأفلامٍ، ولمسارات عاملين وعاملات في صناعة السينما.
تعليقات قرّاء عديدين مُفيدةٌ، إذْ تكشف بعض ما يغفل عن كثيرين وكثيرات من دون قصدٍ. هذا يُعيد طرح سؤال المُشاهدة الأولى، خاصة بالنسبة إلى ناقدٍ وصحافي سينمائي، إذْ تغلب المهنة، قليلاً، على مُتعة المُشاهدة، ويصعب على المهنيّ ـ في المُشاهدة الأولى تحديداً ـ التنبّه إلى "كلّ شيءٍ"، الذي (كلّ شيء) لن ينتبه إليه الجميع طبعاً.
لن يُضرّ الناقدَ اعترافٌ كهذا. المهنة متطلّبةٌ، والمُشاهدة الأولى قاسيةٌ، وظروفها تمارس تأثيراتٍ مختلفة. رغم هذا، لن تمنع المُشاهدة الأولى انتباهاً شبه كامل، ولن تُلغي المهنة متعة الفرجة كلّياً. بعض القرّاء متمكّن من إضافة شيءٍ أو أكثر في تعليقاته المنشورة في بريده، والمُثيرة لمتعة القراءة أيضاً، وهذا كافٍ لناقد وصحافي سينمائي.
"بريد القرّاء" تقليدٌ مهنيّ تعرفه الصحافة الورقية العربية سابقاً، وللناقد ـ في بداياته الأولى في الكتابة عامة، قبل 40 عاماً ـ تجربة معه. تقليدٌ تريد "دفاتر السينما" تثبيته مُجدّداً في الصحافة السينمائية، وفيها أيضاً كمجلةٍ نقدية تُواجِه ـ مع مجلات سينمائية وغير سينمائية ـ أسوأ تحدّيات العصر، بأزماته في الاجتماع والاقتصاد والقراءة والإنتاج متنوّع الأشكال والمضامين؛ وتُدرك ـ في الآن نفسه ـ كيفية تجاوز المطّبات، جاعلةً صفحاتها و"بريد قرّائها" مساحة نقاشٍ، تحتاج السينما إليه، في مرحلة اضطرابات شتّى، سببها كورونا، وتخبّط العالم في ارتباكات ومخاوف.