لا شك أنّ المعرض الأثري الجديد "المغرب عبر العصور"، الذي يُنظمه متحف التاريخ والحضارات بمدينة الرباط، والمُمتد إلى نهاية يناير/ كانون الثاني، هو نتاج حفرياتٍ أثرية جرت منذ بدايات القرن العشرين.
فالمغرب بحكم موقعه الجغرافي المتنوّع المُطل على البحر الأبيض المتوسط وعمقه التاريخي الضارب في القدم في شمال أفريقيا، جعل العديد من الأركيولوجيين الفرنسيين والإيطاليين والأميركيين ينظمون بعثات أركيولوجية خاصّة إلى هذا البلد الذي تربطهم به علاقة تجاور ومُثاقفة وتاريخ وحضارة، تمتد على مدى ملايين من السنين، رغم الطابع السياسي الصرف الذي وسم هذه الحضارات داخل شمال أفريقيا.
من هذا المُنطلق، يظلّ المغرب البلد الأكثر زيارة داخل المنطقة المغاربيّة، بسبب غناه بالكنوز الأثريّة المتنوّعة التي تتبدى جيداً في معرض "المغرب عبر العصور"، الذي يُوثّق سيرة أكثر من 500 قطعة أثريّة، منذ ما قبل الميلاد وصولاً إلى جمجمة أول إنسان عاقل اكتشفت في جبل إيغود سنة 2017. وهي فترة طويلة، فإذا ما كانت تُعبّر عن مدى غنى التراث الأثري المغربي قديماً وحديثاً، فإنّها من جهة أخرى، تُؤكّد السبق الذي حظي به المغرب على مستوى حداثة أعمال أركيولوجية مُبكّرة، رغم أنّها ظلّت مُرتبطة بشكلٍ كليّ ببعثات أثريّة أجنبية.
لا تنقِّب البعثات الأجنبية إلا عن الآثار المرتبطة بتاريخها
أما حضور الباحثين المغاربة داخل الميدان فهو قليل، لا يتجاوز بعض المُساهمات الفردية. نظراً إلى الغياب التامّ لأشكال الدعم المادي الذي يُمكن أنْ تُخصّصه المؤسسات الوصية على الشأن الأثري بالمغرب لتشجيع الباحثين على القيام بمثل هذه الحفريات. مع العلم أنّه في السنوات الأخيرة، فطنت بعض المُؤسّسات إلى ضرورة العناية بهذا التراث المادي أمام موجات التخريب التي ألمّت ببعض المباني والنقوش الصخرية، والتي جعلت الدولة تدخل في شراكات مع بعثات أجنبية مُهمّة للتنقيب عن الآثار.
لكن بالرجوع إلى بعض اللقى الأثريّة المعروضة داخل المعرض وحيثياتها، نكتشف أنّ هذه البعثات الأجنبية لا تُنقّب إلا عن التراث المُرتبط بتاريخها، وهذا ما يؤكّد إقبال فرق إيطالية كثيرة على القيام بحفريات داخل المغرب، بسبب العلاقة التي ربطت هذا البلد قديماً بالحضارة الرومانية من خلال مجموعات أثريّة خاصّة بمنحوتاث رخامية وبرونزية ذائعة الصيت داخل المخيال العالمي، والتي أفرزت ضمنياً هذا المعرض الأثري المُهّم على أكثر من صعيد. فهو يُتيح للسياح والزائرين إمكانية التعرّف إلى تاريخ المغرب ووجوده الحضاري ومدى قدرة الإنسان القديم على التكيّف مع الحيوانات المُفترسة وأهوال الطبيعة وجبروتها.
أما الأمر الثاني، فيرتبط بأهميّة المعرض بالنسبة للمُؤرخين العاملين في صناعة التاريخ الأثري. فاكتشاف هذه اللقى الأثريّة الجديدة يُعيد كتابة تاريخٍ جديد مُنفلتٍ من سطوة اللامعرفة وتصحيح بعض الأساطير المُنسوجة حول فترة ما قبل الميلاد بالمغرب، والتي ظلّت تُعاني نوعاً من القصور والتهميش، إما لأنّ الباحثين لا يجيدون اللغات القديمة، مثل اليونانية والرومانية، تُساعدهم على تفكيك بعض اللقى ورموزها، أو لأنّ المادة الأثريّة الموجودة إلى حدود منتصف القرن العشرين كانت قاصرة على الفهم لما توصل به الأركيولوجيون. وبالتالي فهو غير كافٍ لكتابة تاريخ جديد. لكن مع بروز المعرض الأثري الأخير بالرباط الذي كشف عن آثار لم تكُن مُتداولة داخل المتاحف المغربيّة، أتيحت للمُؤرخين إمكانية التفكير في كتابة جديدة على ضوء هذه اللقى الأثريّة المُتنوّعة من مرحلة ما قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر مع الدولة العلوية، وبالتالي إعطاء صورة دقيقة عن تاريخ المغرب في تلك الحقبة.