المخيم، كفضاء درامي، تم استثماره في عشرات الأفلام والمسلسلات. لكن حضوره كان يتسم بالجمود غالباً، فهو مجرد كتلة من البؤس تختفي فيها الملامح الإنسانية الفردية، وتتماهى فيها جميع الشخصيات مع الفضاء، لتكون جزءاً لا يتجزأ ولا يتمايز عما حوله. وكأن البشر في هذا المكان تحولوا إلى أشياء جامدة وبدؤوا يتماهون مع العدم.
وفي الأعمال الدرامية التي يحاول صناعها أن يستثمروا المخيم بشكل مختلف، يتجهون نحو الوجه النقيض تماماً، ليكون بؤرة للإجرام والأعمال غير الشرعية، كتجارة الأعضاء أو تجارة المخدرات. هذه النماذج التي نشاهدها في الدراما التلفزيونية وفي السينما، تشبه نماذج حقيقية من الواقع غالباً، وليست هنالك أي مشكلة باستثمارها درامياً، لكن المشكلة تكمن في تعميم هذه النماذج وتكريس هذه الصور النمطية، من خلال استهلاك نماذج محدودة ومكررة وتهميش تفاصيل مهمة وعميقة في حياة سكان المخيم.
في هذا السياق يمكن إدراك أهمية الفيلم القصير "الخيمة 56"، للكاتبة سندس برهوم والمخرج سيف الشيخ نجيب، والذي أثار الجدل بعدما تم عرضه، أخيرًا، على منصة "يوتيوب"، إذْ كان قد عرض للمرة الأولى قبل أربع سنوات في مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط. الفيلم لا يتعامل مع المخيم بذات الطريقة السطحية، ويخرج عن الصور النمطية الجاهزة التي اعتدنا على مشاهدتها، ليصور بيئة غنية بالتفاصيل.
استطاع "الخيمة 56" رصد حساسية خاصة في التفاصيل اليومية لحياة اللاجئين في المخيمات من دون تكلّف، فهنا لا نرى شخصيات الفيلم تعيد ذات الكليشيهات، ولا تتبادل ذات الحوارات السياسية العامة الممجوجة حول مفهوم الوطن والعودة إليه، وإنما نجد على الشاشة شخصيات من لحم ودم، تحاول رغم بؤس الظرف الذي وجدت فيه أن تستمر بالحياة. ليتمكن الفيلم من لمس بعض التفاصيل المهملة المتعلقة بممارسة الجنس، على الرغم من كونه فيلماً مغرقاً بالرمزيات، ويصور الحكايات التي يتداولها للترميز للبيئة الهشة التي يعيش بها اللاجئون، ويحكي عن فقدان الخصوصية.
يبدأ الفيلم بلقطات عامة لمخيم متهالك، لترصد الكاميرات المحاولات اليائسة للأزواج لالتقاط لحظات مناسبة والبحث عن مساحات خاصة لممارسة الجنس، وما يقابلها من ممارسات معاكسة تحاصرهم، فيتم التركيز على الثقوب في الخيام، والتي تزدحم عليها عيون الأطفال والمراهقين المتطفلين في النهار، والذين يرغبون بالتلصص والمشاهدة، إذْ ينامون بجانب الأزواج في الليل، في مساحات ضيقة بالخيم الصغيرة التي لا تتسع لأنفاسهم. تشير هذه اللقطات العامة والمشاهد القصيرة التي تتخللها إلى أن سكان المخيم محرومون من أحد أبسط حقوقهم كبشر، وهو الحق بالحصول على مساحة خاصة لممارسة الجنس.
الجلسات النسائية التي تتبادل فيها النساء الأحاديث حول الرغبات الجنسية، والتي لا تخلو من تحليل أسباب تراجعها لدى الرجال، تبدو وكأنها تهكمٌ على الحلول التي تقترحها وسائل الإعلام في التعاطي مع أزمة اللاجئين، والتي تصل أحياناً إلى الإعلان عن ضرورة منعهم من التكاثر، وتتعامل معهم بلغة الأرقام فقط، وكأنهم بمكانة أدنى من البشر ولا يحق لهم إنجاب الأطفال أو حتى ممارسة الجنس. فعلياً الفيلم يبدو مهتماً بكسر الصورة النمطية حول اللاجئات بهذه النقطة تحديداً، فالإعلام يركز طوال الوقت على الحديث عن انعدام وعي اللاجئات بالأمور الجنسية واستهتارهن الذي يؤدي إلى الحمل غير المرغوب به؛ في حين نشاهد اللاجئات طوال الوقت في الفيلم يتحدثن عن المسائل الجنسية بما فيها مسألة إمكانية الحصول على "حبوب منع الحمل".
لكن هذه المشاهد بالتحديد هي التي تسببت بإثارة الجدل حول الفيلم وتسببت بسخط البعض؛ لأن شريحة من السوريين تتعامل مع اللاجئات والنساء السوريات عموماً وفقاً لمفهوم الشرف، وبذات المنظور الأبوي الذي يجعل من الحديث عن الرغبات الجنسية للاجئات، في أي سياق، بمثابة إساءة للشرف الجمعي القبلي.
لكن فيلم "الخيمة 56" فعلياً هو واحد من أفضل الأفلام السورية التي تناولت حياة السوريين في هذه المرحلة عموماً، وتزيد من جماليته اللقطات القصيرة الرمزية التي تتخلله، ولاسيما المشهد الذي تبني فيه فتاتان صغيرتان خيمة من الكرتون، لتلعبا بها وتجلسا فيها، قبل أن يأتي باقي الأولاد لتخريبها؛ فهذا المشهد الذي يرمز بشكل فني للبيئة الهشة التي يعيش بها السوريون ومخاوف استمرارها في المستقبل وتضاؤل حجم أحلام وطموحات السوريين؛ هو واحد من أفضل المشاهد التي أنتجها السوريون في السينما منذ أن بدأت موجات النزوح.