"التّائهون" للمغربيّ سعيد خلاّف: فجاجةُ تناولٍ وإهمال تامّ للتفاصيل

07 يوليو 2021
نسرين الراضي في "التائهون": علاقة معطوبة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يتبدّى، منذ اللحظات الأولى، حجم الارتباك والارتجال، اللذين يطبعان جُلّ مَشاهد "التّائهون"، الفيلم الطويل الثاني لسعيد خلاّف، المعروض حالياً في قاعات السينما المغربية. يسعى المخرج إلى أنْ يُلخّص ـ بشكلٍ مُتسرّع، وبمنتهى المُباشرة على ألسنة شخصياته ـ حبكة الفيلم، المتمحورة حول مراد (عبد النبي البنيوي)، الشاب المُدلّل والمدمن على المخدّرات، الذي يجهد والداه الثّريان في إتمام زواج مصلحة، يجمعه بكريمة عائلة من الطبقة المخملية نفسها. لكنّه يتورّط في علاقةٍ مع فتاة الليل غزلان (نسرين الراضي)، تفضي إلى حَملٍ، يواجهه بالرفض القاطع، في البداية.

تنكّرٌ غريب لأبسط قواعد وضع المُشاهِد في أجواء الحكاية، وتوضيح رهانات السرد بشكلٍ تدريجي ومُتريّث، يحضر فيه حَدّ أدنى من الإيحاء. يُشار هنا إلى أنّ إعادة تسجيل الحوارات بأصوات الممثلين، في عمليات ما بعد الإنتاج (مشكلة تقنية في الصوت؟)، زادت من جفاف أجواء المَشاهد، وعزّزت من عوزها إلى المصداقية.

لكنْ، ما إنْ تُفصح المَشاهد الموالية عن فحواها، المُزايد في مُراكمة الكليشيهات والإثارة السهلة المُفتقرة إلى الكياسة، حتّى يتّضح أنّ الظاهر في مَشهد الافتتاح يُنبئ، في الحقيقة، بنبرة باقي الفيلم: مراد يتجوّل بين موظّفي ملهى (يخلو ديكوره من أيّ روح)، موزِّعاً النقود بافتضاحٍ (سيتكرّر هذا، إلى حدّ الابتذال، في مَشاهد أخرى من الفيلم) يقتل كلَّ معنى لسطوة المال، عوض الدفع إلى الاقتناع بها. شرط الثراء فكرة، يقتضي القبضُ عليها اشتغالاً على تفاصيل من نمط عيش شخصيات الطبقة الغنية وحركاتها ولغتها، بدلاً من اجترار كليشيه المال الوفير. لم يُعر المخرج ذلك أيّ اهتمام، فبات أثرياؤه مُجرّد شخصياتٍ جوفاء، تفتقر إلى العمق السيكولوجي والسُمْك الدراميّ، يهدّدون بسلطة مُبهمة، لا يحسّ المُشاهد بوجودها، ناهيك عن أنْ يشعر بالتوتّر، أو عدم الارتياح لها، كما يُفترض به أنْ يشعر أمام تجلّيات أيّ سلطةٍ.

الافتقار إلى حسّ الصدقية، يبدو أبرزَ تجلٍّ آخر له منزلُ الوسيطة، المُهيمنة على فتيات الملهى، حيث يبدو كلّ شيءٍ كاريكاتورياً ومُضحكاً: منذ الديكور المينيماليّ (منضدة تتزاحم فوقها الفتيات بشكل غريب)، إلى زوايا الكاميرا، المأخوذة من أعلى المُريبة، مروراً بشخصية الشيخ الذي لا يتوقّف عن تدخين "الكيف"، والمناداة بوجبة الإفطار، التي لم يفلح ـ حتّى الممثّل الجيّد، عادةً، حميد نيدر ـ في أن يخرج من تجسيدها، من دون أن يطاوله نزرٌ من سخافتها. مَشاهد عراك متواترة، تصرخ فيها الشخصيات بالوعيد والتهديد، في انعدامٍ لقواعد التوتّر الدرامي، الذي ينبغي أنْ يُبنَى بشكل مُتصاعد.

إزاء هذا كلّه، كيف السبيل إلى الحديث عن أيّ معنى للإخراج السينمائي، الذي يُفترض به أنْ يُشيَّد على إعادة ترتيب العالم، وتنظيم الفضاء، واتّخاذ المسافة المُناسبة مع ما يُصوّر؟ لقطات مُصوّرة بواسطة الـ"درون"، من فوق الدار البيضاء، مُجرّدة من الروح والمعنى، يتّخذ منها سعيد خلاّف وسيلة الانتقال الوحيدة بين المناخات، بل يدفع بالضحالة إلى أقصاها، حين يقتصر على إدراج واحدة منها لـ"تمرير" اختزالٍ زمني، مدّته 6 أشهر، عندما يتعرّض مراد لحادثة سير، فيدخل في غيبوبة، يخرج منها بلحية "سلفية" الطابع، فقط لأنّ أحدهم وضع مصحفاً قرب رأسه على سرير المستشفى، من دون أيّ انعكاس لهذا التحوّل على سلوكه ولغته، ما عدا عدوله عن قرار عدم الاعتراف بجنينه من غزلان، التي اختفت عن الأنظار.

 

 

قبل أن يأتي الانعكاس بـ"أثر رجعي"، بضعة أسابيع بعد ذلك، حين يستيقظ البطل من ليلة سكرٍ طافحٍ، بقدرة قادر، في منزل مُتشدّد إسلامي، خرج من العدم، أو المدد الغيبي لقرار مراد بتفجير نفسه في الملهى وزبائنه. إسفافٌ واستسهالٌ يستعصيان على الإدراك.

حتّى بعض نقاط الضوء، المتمثّلة في وضعيات درامية مُثيرة للاهتمام، كمقابلة زبون الملهى الدائم، المعتقل السياسي السابق (محمد الشوبي)، وجلّاده (جلال بوفطايم)، الذي أصبح مُسيّراً للملهى بعد تقاعده، هذه النقاط تُبدِّد سريعاً رصيدَها سطحيةُ الحوار ومباشرته، التي تقذف بكلّ الحقائق في وجه المُشاهد، بنظرات الشخصيتين المُركّزة في الكاميرا.

لن يُعدّ "التائهون" خيبةَ أملٍ كبرى، لأنّ الفيلم الأول لسعيد خلاّف، "مسافة ميل بحذائي"، لم يُفصح عن رؤيةٍ واعدةٍ، أو تفرّدٍ فني، يُلفتان الاهتمام أصلاً. لكنّه، على الأقلّ، يتّسم بشيءٍ من التماسك السردي، بنَفَسٍ سوسيولوجي، يتتبّع مسار انحدار إنسان في مسار الجريمة وعواقبها، بحكم تحديداته الطبقية والمجتمعية، رغم توبته المتأخّرة، وسعيه الصادق إلى الغفران.

لم يحضر شيءٌ من هذا في "التائهون"، نهائياً. كلّ ما يَخرج به المُشاهد من عرضه، امتعاضٌ ورغبةٌ ملحّة في نسيان ما شاهده، بأسرع ما يُمكن.

المساهمون