"البحر أمامكم": المُشاهدة أهمّ من الكتابة عنه

30 مايو 2022
"البحر أمامكم": لقطات كأنّها لوحات عن مدينةٍ وشابّة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

فيلمٌ لبنانيّ جديد يُعرض في بيروت بدءاً من 23 يونيو/حزيران 2022: "البحر أمامكم" (2021)، لإيلي داغر. هذا يحصل بعد أقلّ من عامٍ واحدٍ على عرضه الدولي الأول في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/حزيران 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ (نصف شهر المخرجين). عروضٌ تجارية محلّية تُثير راحةً، رغم العنف المبطّن في سرده الحكائيّ، ونواته الدرامية. راحةٌ تقول إنّ في البلد حيّزٌ، صغيرٌ جداً، يشي ببعض اطمئنان يبتكره نتاجٌ سينمائيّ، يُصنع عن البلد وفيه، ويتناول مسائل تعكس تفاصيل عيشٍ وانفعالاتٍ، لأفرادٍ يواجهون أعطاباً وخللاً وانهياراتٍ، في مدينةٍ عاجزةٍ عن النهوض من موتها.

"البحر أمامكم" يقول إنّ الأعطاب فردية وجماعية، وإنّ الأسئلة المطروحة ضمناً أخطر من العثور على إجاباتٍ، وإنّ الإجابات غير حاسمة وغير مهمّة، وإنّ البلاء يُصيب أناساً، غالبيّتهم مُقيمة في المدينة، وبعضهم عائدٌ إليها من تجربة هجرة تُشبه هروباً. "البحر أمامكم" مفتوحٌ ومنغلق، وثنائية "مفتوح ـ منغلق" شديدة الالتباس، فلا إمكانية لاستكانةٍ لأنّ كلّ شيءٍ مُعطّل، والعنف ـ بجانبيه، غير المباشر، وهذا وفير، والمباشر، القليل للغاية، لكنْ المصنوع، سينمائياً، ببراعة تصوير (شادي شعبان) وأداء (منال عيسى) ـ هذا العنف مفروضٌ على عيشٍ وسلوكٍ وعلاقات وأحاسيس، فالبلد مُدهشٌ بقدرته الدائمة على إنتاج خرابٍ، وإفراز موتٍ، وانسداد أفق، وتعطيل حياة.

يصعب اختزال الحبكة، فالمُصوَّر أهمّ وأعمق من كلّ كلامٍ وحوار، وفي الكلام والحوار ما يُمتِّن المُصوَّر، ويُبيِّن ما يُراد تبيانه من أعطابٍ وقلاقل وانكسارات وخيبات. الرماديّ غالبٌ في مشاهد تقترب كثيراً من لوحاتٍ، تبدو، أحياناً عدّة، كأنّها فوتوغرافية أو تشكيلية. ملامح جنى، بحسب تمثيل منال عيسى، تختصر كمّاً هائلاً من الغضب والتوتّر والخيبة والألم والصدمات والخسائر، وبراعة عيسى في منح جنى متطلّباتها، الإنسانية والنفسية والجسدية والعقلية والحسّية والتأمّلية، تؤكّد مجدّداً أنّ للعفويةِ دورٌ أساسيّ، لن يحجب إتقاناً أدائياً في تحويل الشخصية من متخيّل إلى واقع ملموس. كأنّ عيسى، بارتباطها السينمائي الوثيق بجنى، تنفث في الشخصية روحاً وانفعالاً، من دون التخلّي عن تحكّم حِرفيّ في إضفاء مصداقية صافية وعميقة، لشخصيةِ شابّةٍ تائهةٍ في أعماق ذاتها، المتخبّطة والغاضبة والمنعزلة في مسارها ومصيرها.

 

 

لن يحول الأداء الرائع لمنال عيسى دون تنبّه إلى تمكّنٍ جميلٍ لممثلين/ممثلات قلائل، يظهرون في لحظاتٍ، فيُساهمون في تحويل النصّ إلى متتاليات متماسكة في سردها سيرة جنى، وضياعها وتساؤلاتها المطروحة بصمتٍ (توليف ليا ماسون وإيلي داغر)، لكنْ المنكشفة بحدّة، بفضل مواربة سينمائية تحترف صُنع صُورٍ تبوح من دون نطقٍ، غالباً.

يارا أبو حيدر تُظهِر، في ملامحها ونظراتها وحركاتها وصمتها، قلق أمٍّ وجمال ممثلة، تقف على حافة السقوط من دون أنْ تسقط كلّياً (وهذا غير مؤكِّد، فالخراب يُصيب الجميع، ولكلّ واحدٍ أداة أو أسلوب للتحايل والاستمرار، أو للموت بهدوء). ربيع الزهر أقلّ ظهوراً في شخصية وسام، والد جنى: نظراته، رغم بساطتها الواضحة، مُخيفةٌ لشدّة ارتباكها المبطّن إزاء كيفية التعامل مع ابنة عائدة من مهجرٍ، وزوجةٍ معلّقة بين جدران، لن تكون (الجدران) حكراً على غرفةٍ أو منزل. فادي أبي سمرا، إطلالته السريعة في صورة وليد، خال جنى، كافيةٌ لفهم معنى أنْ يبرع ممثلٌ في التأثير، رغم حضوره لدقائق. وجيه عازار، الذي يؤدّي دور حبيب جنى، يحمل اسم آدم، وهذا مقصودٌ، والنهاية تقول أشياء كثيرة في مشهدٍ، تتألّق منال عيسى في تأديته، ويعكس موقفاً إزاء رمزية الاسم، ومصير صاحبه.

ما يُقال في "البحر أمامكم" غير مُتمكّن من إيفائه حقّه. المُشاهدة أهمّ، ومتعتها ـ رغم القسوة والخوف والاضطراب الحاصلة كلّها فيه ـ ستبقى شاهداً على أنّ السينما في بيروت وعنها أجمل وأقوى من أنْ يُحطّمها عنف المدينة وموتها.

المساهمون