"إن أن" لـضبّور وشب جديد... ليست رواية المستضعفين

04 يونيو 2021
مغني الراب شب جديد (فيسبوك)
+ الخط -

بسماره الواضح، وحاجبيه المعقودين، وجسده الذي يتحرّك بسلاسة، يردّد مغني الراب الفلسطيني ضبّور "إهدااا... ما هو كل شي باين بالمحنة".

أغنية "إن أن" التي تواصل تحقيق النجاح على موقع "يوتيوب" (أكثر من ثمانية ملايين مشاهدة خلال شهر، وآلاف الميمز على مواقع التواصل الاجتماعي) ترسّخ وتوضح ملامح مرحلة جديدة من الأغنية الفلسطينية، متماهية ومترافقة مع تغيير في المشهد الموسيقي العربي.

لكن هذا التغيير في الأغنية الفلسطينية، يكتسب أهمية أكبر مما هي الحال في مصر أو الأردن أو المغرب أو لبنان. إذ منذ النكبة، اعتبرت الأغنية الفلسطينية ترجمة فنية أو تتمة للنضال السياسي، بصفته عملاً ملحمياً أو أسطورياً. وضعت في إطار سياسي مقاوم، حتى بات تعريف الأغنية المحلية محصوراً إما بالأغنية الوطنية، أو بالفولكلور. وكل ما عدا ذلك، اعتبر دخيلاً، وهامشياً في ظل الانهماك بقضايا اللاجئين واحتلال الأرض والمجازر.

استمرّ الحال على ما هو عليه حتى السنوات القليلة التي سبقت النكسة ثم الهزيمة، حين باتت فلسطين ثيمة رئيسية في الأغينة العربية (فيروز، أم كلثوم، عبد الحليم...)، لتنطلق بعدها "منظمة التحرير الفلسطينية"، وتتحوّل الأغنية المحلية مجدداً إلى رافعة للعمل المقاوم.

من الغزل بالفدائيين، إلى الشوق لـ"البلاد"، إلى أغاني استنهاض الجماهير وترهيب الاحتلال، تنقلت الأغنية الفلسطينية بشكل أساسي بين هذه الخطوط العريضة، مع ظهور عدد من الفرق الغنائية التي اختفى عن الساحة القسم الأكبر منها في السنوات التي تلت اتفاقية أوسلو عام 1993، مثل فرقة "العاشقين" وفرقة "الأرض" وفرقة "بيسان"... وثّقت هذه الأعمال السردية الفلسطينية بواقعها وآلامها، وتقدّمت بشكل واضح على باقي الفنون التي تأخّرت نسبياً في توثيق المعاناة الفلسطينية.

نقفز إلى أبريل/نيسان 2021 حين عادت محاولات الاحتلال الإسرائيلي تطهير حي الشيخ جراح في القدس المحتلة عرقياً، عبر طرد سكّانه الأصليين، إلى واجهة الإعلام العربي والغربي. تزامن ذلك مع صدور أغنية "إن أن" لـ ضبّور (19 عاماً من حي الطور في القدس).

الأغنية مانيفستو سياسي واضح، برسائل مباشرة، وبلغة متماهية تماماً مع اللغة المتداولة في الشارع التي تمنح موسيقى الراب/التراب هويته "البذيئة" و"الشوارعية"، بحسب التصنيفات التقليدية. يكرّر ضبور، ومعه شب جديد، في النصف الثاني من الأغنية، الحديث عن القدس "مرحب فيك في أولاد القدس/بندبر حالنا نحل اللغز/رنات على نفحة وكله بخش/ولك شوفنا وياما وكله بصف/ولا مرة نخاف ولا مرة ونص"، ثم المقاومة في غزة "أنا زي النووي سلاح فتّاك، في بغزة رجال تحفر أنفاق، ترجع بشوال وملان أشلاء"، ثمّ الأطراف الفلسطينية المتماهية مع الاحتلال "بوم بخ وطني باعوا ميزانه/ وكيف بس عر*** نص ولاده". واضح ضبور في رسائله، لا يلتوي وجعاً على الوطن، لا يقدّم رواية المستضعفين، هو قويّ ويظهر ذلك.

أغنية للمواجهة، لتعرية المتخاذلين، ولاستعراض القوة. ما بين الأغنية والعدوان الإسرائيلي على غزة، كانت التظاهرات في القدس وباقي المدن الفلسطينية، وكانت الهتافات الواضحة من باحات المسجد الأقصى: "يا غزة يلا منشان الله". هي العلاقة، إذن، بين مخلتف مناطق الوطن، المقسّم والمحتلّ، العلاقة نفسها التي يتحدّث عنها ضبور في أغنيته. لا يستعطف الشاب المقدسي أحداً، لا الجمهور الغربي، ولا الجمهور العربي. يقدّم الفلسطيني بصفته صاحب أرض وإن كانت محتلة، وإن مرت سبعة عقود على سلبها. يقدّم المقاومة لا بصفة طوباوية، بل بعبارات واقعية، ولا يقدّم الفلسطيني بصفته إنساناً منزّهاً وكاملاً، ولا يقدّم فلسطين بصفتها قضية مبهمة ومجردة، فلسطين هي أهلها بينهم "الجدعان والسباع"، وبينهم "الأوغاد"، و"مين باع واختفى". كما قلنا أعلاه، فإن أغنية ضبور جاءت لتتوّج مساراً بطيئاً لكنه ثابت في التغيير في المشهد الغنائي الفلسطيني. تطوّر أخرج الأغنية من تقليديتها "المقاومة" ومن أناشيدها الدينية (لاحقاً).

الأرشيف
التحديثات الحية

المسار نفسه الذي شمل أيضاً أغاني حركة "حماس" نفسها التي بدأت تتخّذ أشكالاً مختلفة عن شكل النشيد الوطني/الديني التقليدي. وهو ما شهدناه على سبيل المثال في المهرجان الذي أقامته الحركة في خان يونس قبل أيام، حين قدّم أحد المقاتلين في الحركة المهرجان، وردد بعض الأغاني الخاصة بها وبمواجهة الاحتلال، بإيقاعات وكلمات أكثر جرأة وأقل تقليدية.

وما بين ضبّور وأناشيد حركة "حماس" الجديدة، فرق ومغنون وضعوا أسس التغيير في هذا المشهد في السنوات الأولى التي تلت الربيع العربي، مثل فرقة "السبعة و أربعين" التي تملك حالياً جماهيرية واسعة (فرقة فلسطينية أردنية)، وطبعاً مغنيا الراب شب جديد وبنت حلال، وقبلهما فرقة "دام"، ثمّ فرقة "ولعت"، و"الإنس والجام"، وغيرها من الفرق والموسيقيين الأفراد الذين حاولوا، تدريجياً، وبمشاريع بعضها موفّق وبعضها متواضع فنياً، إخراج الموسيقى الفلسطينية من قالبها التقليدي.

ما سبق ليس محاولة لتحليل المشهد الموسيقي الفلسطيني، ولا لتقديم صورة شاملة عن التحولات على الساحة الفنية داخل فلسطين، بل إضاءة على تطوّر الموسيقى باتجاه قد يراه البعض غير محبّب، لكنه يكمل التقدّم ويوسّع قواعده داخل فلسطين وخارجها.

المساهمون