مشهدٌ يبدو عادياً في لحظاته الأولى: شابّة تتحدّث مع والدتها عبر الهاتف، وهي تؤدّي ـ في الوقت نفسه ـ أعمالاً منزلية، كتحضير طعامٍ للطفل، إلى أنْ يحدث طارئٌ، ينبئ بما هو غير عادي. الرضيع ينزعج من أمرٍ ما، ويشرع في البكاء. هنا، تتبدّل ملامح الأمّ، وتتعجّل وضع صغيرها في مكانٍ بعيد، لإخفاء صوته، ومعه إخفاء "مصيبة" غير مُعلنة. بادرة أولى، وتخمين أوّلي يتأكّد مع ارتسام علامات قلقٍ على وجه الشابّة، الطالبة الجامعية، وهي تجهد في إقناع أمّها تأجيل قدومها المفاجئ إلى طهران، رفقة أبيها، وزيارتها لليلة واحدة.
المحظور سيقع، ولن تنجح فِرِشْته (صدف أصغري) في ثني والديها عن المجيء إليها. ماذا ستفعل بمصيبتها؟ كيف ستتدبّر أمرها، هي العازبة؟ ماذا ستفعل بصغيرها؟
هذا ما يتناوله "إلى الغد" (2022)، الذي أخرجه الإيراني علي عسكري، و شارك علي رضا حاتمي في كتابته. في نظرة حميمية ومتحيّزة إلى بطلته، ينجذب عسكري، مجدّداً، إلى أحوال المرأة في المجتمع الإيراني، ويحاول ـ في سيناريو يدعمه أسلوب إخراج ـ تخيّل كلّ ما يمكن أنْ تجابهه امرأة عازبة، تلد طفلاً في مجتمع لا يتقبّل، بل يستنكر كلّ ولادة من دون زواج، وكلّ ما يمكن أنْ تثيره هذه الحالة في نفس الأمّ من مشاعر قلق وخوف وخجل، في ظلّ قوانين تعقِّد وضعها، وترفض الاعتراف به. يبني الإخراج فيلماً بإحكام شديد، حول عدم قدرة الفتاة على الاعتراف لوالديها، وطريقة مواجهتها جميع النساء والرجال، الذين تطلب عونهم في محنتها. يرسم عسكري، بمساعدة إيقاعٍ لاهث وأداء لافت للممثلين، صورة قاسية لمجتمعٍ، يراه منافقاً ومتآمراً، وغير قابل تفهّم العصر ومشاكله.
شخصيات "إلى الغد" لا تعرف التشارك، لأنّها تخشى نظرة المجتمع، ولا الصراحة، لأنّها منافقة. فِرِشْته تدور على جاراتها، ساعية إلى ايجاد عونٍ، لعلّ إحداهنّ تقبل الاحتفاظ بالطفل إلى الغد فقط. هنّ لا يعرفن وضعها الحقيقي. يُخمّن ربما. لهذا، أو لسبب آخر، يتعلّلن بعدم مقدرتهنّ. شخصيات سلبية، لا تُلبّي حين الحاجة إليها، ويجب اللجوء إلى الكذب للحصول على مساعدة. لفِرِشْته صديقة وحيدة (غزل شجاعي)، تتحمّل معها كلّ الأعباء. لكنْ، ماذا تفعل اثنتان أمام مجتمع بأكمله، حيث المرأة لا تساند المرأة، إنْ لم تقف ضدها، والرجل مُغيّب، وحين يحضر فهو جبان ومستهتر وكاذب، ولا يتحمّل مسؤولية. والد الطفل (أمير رضا رنجبران) أراح ضميره بالقول إنّه عرض عليها الإجهاض، ورفضته، فانصرف إلى حياته. وحين قَبِل مساعدتها، بدا غير قادرٍ عليها. الشخصية الثانية مدير مستشفى (بابك كريمي)، أوقعتها الظروف السيئة بين يديه. مُنافقٌ ومتحرّش، يدّعي الشرف والاحترام، كمن في مركزه، لكنْ كلّ ما يأمله علاقة جنسية سريعة، ثمناً لمساعدتها.
يُلاحق السرد سعي الفتاتين إلى إيجاد حلّ، قبل حلول المساء، ووصول الوالدين. يساعد الإخراجُ السيناريو في اعتماد تصوير يمنح إحساساً مطلوباً بالتوتر والقلق، عبر كاميرا سريعة، ترافق الشابتين وهما تحثّان الخطى، وتجرّبان الممكن وغير الممكن، في أمكنة ضيقة ومحدودة المدى، تُثير شعوراً بالاختناق، كالشقق الصغيرة في طهران، المليئة بالأثاث، ودهاليز المستشفى، والسلالم الضيقة، والشوارع الضاجّة بالحركة. رحلة بحث عن سند تبدأ من مكان وتنتهي عنده لاهثةً، تتمّ في يوم واحد، وتكشف شخصياتٍ ومجتمعاً وأسراراً، مُتحدّية أمّاً شابة عزباء، تبحث (الأم الشابّة) عن مساعدة، وتتأمّل (الرحلة) في النفس البشرية، واختفاء المشاركة والثقة، في مواجهة الجيران والأصدقاء ووالد الطفل ومدير المستشفى. لكنْ، مع حلول العتمة، يغمر نور جديد فِرِشْته، يدفعها إلى مواجهة مصيرها بكلّ ثقة.
عواطف شتّى يثيرها "إلى الغد"، تتراوح بين تعاطف واستنكار ودهشة، لا تنبع من الحدث نفسه فقط، بل أيضاً من أسلوب إخراج، يُنسي أحياناً ـ لمتانته ـ بضع هنات في السيناريو غير مُقنعة، كلجوء فِرِشْته وصديقتها إلى المستشفى بناء على نصيحة والد الطفل.
يعتمد علي عسكري (1982) الزمن القصير ليروي حدثاً: ساعات قليلة، ليلة واحدة، نهار بكامله. يميل إلى نقد قوانين الدولة والمحرّمات الاجتماعية التي تخنق الشباب عامة، والشابات خاصة، اللواتي يقعن ضحيتها. يلقي نظرة عن كثب على حياة هؤلاء في إيران، والتحدّيات التي يواجهونها. وكأفلامٍ إيرانية عدّة، كالتي يُخرجها أصغر فرهادي مثلاً، تتمحور أفلامه حول مسائل الأخلاق، خاصة السُمعة، والقوانين الشرعية، لا سيما المتعلّقة بالمرأة.
في فيلمه الروائي القصير، "أكثر من ساعتين" (2013)، علماً أنّه حقّق أكثر من 10 أفلامٍ قصيرة، يتبع ـ في 15 دقيقة ـ شخصيتين في رحلة مزعجة، في ليلة واحدة. شاب وفتاة يسعيان إلى إيجاد مستشفى لعلاج الفتاة من حالة طارئة، بعد علاقة جنسية أولى. (النص الكامل على الموقع الإلكتروني) يبدو أنّ عسكري استوحى من هذا الروائي القصير فيلمه الروائي الطويل الأول، "اختفاء" (2017)، وفيه يواجه حبيبان، في 90 دقيقة، مشكلة خطرة، ويبحثان في ليلة شتاء باردة في مستشفيات طهران عن مساعدة، لكنّ أحداً لم يقبل منح الفتاة الرعاية الطبية التي تحتاج إليها بشدّة. يتعامل عسكري مع القمع الجنسي المُطبّق على الشباب، وما يثيره من قمع بشري، ويشير بوضوح إلى الشرعية المتعلّقة بالإجهاض في إيران، ويضع شخصياته غالباً أمام محنة، تتوجّب معالجتها في ساعاتٍ قليلة.
في فيلمه القصير "البيبي" (2014)، رحلةٌ ليلية لفتاتين تبحثان عمّن يعتني برضيعٍ لساعات قليلة. يبدو أنّه طوّر هذا الموضوع لإنجاز فيلمه الروائي الطويل الثاني، "إلى الغد"، ذي الإنتاج الإيراني (الممثلة نيكي كريمي) الفرنسي القطري المشترك. عُرض في قسم "بانوراما"، في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين"، وفي قسم "الأفلام الآسيوية" في الدورة الـ7 (1 ـ 10 أبريل/نيسان 2022) لـ"مهرجان أولجو لسينما الجبال" في كوريا الجنوبية.