"أخطبوط" كريم قاسم: صمتٌ يستعيد كارثة

06 ابريل 2022
مرفأ بيروت بعد قليل على انفجاره: "أخطبوط" يقضي على مدينة وأناس (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لا شيء يستدعي الكلام، فالكارثة أكبر من أنْ يرويها ضحاياها الناجون (أهُم فعلاً ناجون؟) من موتٍ يُخيِّم على المدينة وفضائها. الأجمل ـ رغم المأساة والألم والانكسار والخيبة والإحباط، ومحاولة التغلّب على هذا كلّه لرغبة في عيشٍ، وإنْ يكن مُعطَّلاً ـ كامنٌ في براعة العدسة السينمائية في التقاط القهر والعذاب والخوف والفراغ، والتأمّل في الفراغ أيضاً، التي (البراعة) توثِّق، بصمتٍ قاهِرٍ، أثرَ انفجارٍ يُدوّي في بيروت، فيُزيد الموتَ موتاً، والخرابَ خراباً، والانهيار انهياراً، والتمزّقات تمزّقاً.

في "أخطبوط" (2021، 64 دقيقة) ـ الفائز بالجائزة الأولى لبرنامج "تخيّل" (المُكرَّس للأفلام الفنية الإبداعية والمبتكرة)، في الدورة الـ34 (17 ـ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" ـ يكتفي كريم قاسم بتصويرٍ يتغلغل في أحشاء أناسٍ يستسلمون للكاميرا بصمتٍ كامل، كذاك الصمت المنبثق من هولٍ تصنعه كارثةٍ، أو من صدمة يُنتجها غير المتوقَّع. انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020، يرسم على وجوه أناسٍ، يُقيمون في ما تبقى من مساكن لهم، ملامحَ، لبعضها سمات غضب واضطراب وكراهية وألم، ولبعضها الآخر سكينةٌ توحي بهدوءٍ، لكنّها تتكشّف، ببطءٍ، عن غضب واضطراب وكراهية وألم. التأمّل في الفراغ، وسط ركامٍ في منزلٍ، أقسى وأعنف، رغم ثباتٍ في مقعد، أو تحرّك خفر بين ركامٍ وغبار.

وهذا ـ إذْ يُحيل غيابَ الكلام إلى خطابٍ أوضح وأقسى وأجمل، عن كارثةٍ تمتدّ من مرفأ إلى نفوس وأرواح وعلاقات وتفاصيل ـ متأتٍ من كتابةٍ بالكاميرا، تحفر في جرحٍ، وتتوغّل في تمزّق، وتهيم في أزقّة، وتبحث عن معنى، وتتلصّص على محاولة إكمال عيشٍ، أو ما تبقّى منه. كاميرا غير متحرّكة، غالباً، تُصوّر لقطات ثابتة، تجعلها لوحات عن أشياء حميمة في ذاتٍ وجسدٍ، وعن خرابٍ وانكسار.

نساء ورجال، عجائز وشباب وأطفال، يعكسون سطوة الصدمة والخوف والإحباط والألم، أو لا مبالاة (ناتجة من قسوة الكارثة) تبدو أشدّ فتكاً من انفجار قاتل. كاميرا كريم قاسم تتجوّل في أمكنةٍ ونفوس، لتوثيق لحظةٍ وحالة، لكنّها تخرج سريعاً من سلوك التوثيق إلى مدى أوسع، يُتيح لها التقاط نبرةٍ وتعبير وبوح، من دون كلامٍ.

للمتخيّل البصري حضورٌ عابرٌ، أو هكذا توحي لقطات لأناسٍ قلائل، يُطلقون ـ بثباتهم وجمودهم أمام الكاميرا ـ سياقاً مرتكزاً على هذين الثبات والجمود. أناسٌ آخرون يتحرّكون ويتحدّثون (نتفٌ من أصواتهم تُسمَع من دون وضوح، فالأهمّ من أي كلام كامنٌ في مساحات أخرى) ويعملون، فالخراب كثيرٌ، والاستمرار مطلبٌ (لاواعٍ ربما). لكنّ المؤكّد أنّ الحاصل ملتصقٌ بمسام جسد وروح، واللقطات المتتالية ـ المشغولة بفنّيةِ حائكٍ ماهر ـ تكتفي بنقل شيءٍ مما يحصل، وبكثيرٍ من أوجاعٍ، لن تُظهرها الشخصيات مباشرةً، فالناس أمام كاميرا كريم قاسم صامتون بملامح توحي من دون أنْ تُعبِّر مباشرة، وهذا أجمل من كلّ كلام، وأقسى من كلّ ألم.

 

 

جمالية الكاميرا تصنع من "أخطبوط" شهادة بصرية، تقول إنّ الوثائقيّ يخطو خطوة إضافية إلى لحظة التحرّر المطلق من أي قاعدة اشتغال. المفردة (الوثائقي)، بحدّ ذاتها، تفقد معانيها المتداولة، للتمكّن من الإمساك بجوهر فردٍ ومكان وحدث وانفعال، بتحرّر مطلق، يريد للكاميرا أنْ تُعيد إحياء اللحظة، وأنْ تصنع معنى للأشياء من أدواتٍ بسيطة، باقيةٍ في زقاق وغرفة ومبنى، وفي نفسٍ توّاقة إلى لا شيءٍ، بعد خروجها غير الآمن من انفجارٍ مدوٍّ. أدوات (غبار، خشب، سيارة، طاولة، حجارة، مكيّف، إلخ.) تُشارك الصمتَ في كتابة نصٍّ بالصُور، عن تفاصيل لاحقة على موتٍ مؤجَّل. فالخروج من انفجار يترافق وموت مؤجّل، ذاك الموت الذي يبرع "أخطبوط" في مقاربته البصرية، ببساطة بارعٍ يجعل الصُور مرايا ألمٍ وغضبٍ وخيبات.

عارفو جغرافيا "أخطبوط" ـ الذي يفتتح الدورة الـ17 (6 ـ 14 إبريل/نيسان 2022) لمهرجان "شاشات الواقع" في بيروت ـ ينتبهون إلى تلك الأمكنة المحيطة بمرفأ المدينة. كاميرا كريم قاسم تُخرج الجغرافيا من حيّزها الماديّ، لتروي معها حكاية مدينةٍ خائبة، وأناسٍ مُتعبين، وأرواحٍ منكسرة (رغم أعمالٍ يُنجزها البعض، كإشارات ملتبسة عمّا سيحدث، وعمّا يعتمل فعلياً في ذاتِ كل ظاهرٍ/ظاهرةٍ أمام الكاميرا).

جمال الصنيع السينمائي لقاسم متأتٍ من إزالة ما يحول دون وضعِ البصريّ في فضاءٍ مفتوحٍ على اختبارات تجديدية في صناعة فيلمٍ، وعلى توغّل دقيق وحميم في مسام أناسٍ ومدينةٍ.

المساهمون