عبد الحليم حافظ: تأثير عابر للأجيال

06 ابريل 2020
توغّل عبد الحليم في أجساد فنانين جدد (دانيال سيمون/Gamma-Rapho)
+ الخط -
تتباهى مصر، مُقارنة بدول عربية أخرى، بالعديد من الأصوات الغنائية، التي تشكل حتّى اليوم تراثاً موسيقياً عربياً زاخراً بمواهب غنائيَّة لن تتكرر ولا يطويها النسيان. لكن ما الذي يجعل من المُطرب عبد الحليم حافظ (1929-1977)، والذي حلت، قبل أيام، ذكرى رحيله الثالثة والأربعين، محبوباً إلى هذه الدرجة من لدن جماهير، إذ إنَّ أغانيه تُسمَع على مدار سنوات وبنفس الشغف والحب والسحر الذي لا ينضب، منذ الخمسينيات حتّى الآن، كما لو أنه لا يزال حياً بيننا؟ هل هي قصص حبه المُتعددة التي تجعل منها منابر عربية بين الفينة والأخرى مادة خصبة لتأجيج لهيبها؟ أم هي قدرة غنائية مرهفة وفريدة، تسللت بلا كلل إلى قلوب الناس في فترة جريحة من تاريخ مصر؟ أم هي أفلامه المُنطبعة في المُخيلة البصرية العربية، كامتداد عميق لمشروعهِ الغنائي؟

إن الكتابة عن فنان بحجم عبد الحليم حافظ لا يمكن أن تسلم من طابع التشعب، نظراً لموقع الفنان في بنية المتخيّل العربي، وارتحاله الدائم بين أصناف فنية مُتعددة من غناء وتمثيل. بداية الخمسينيات، التحق بمِهنته مدرساً للموسيقى، قبل أن يتخلى عن ذلك، ويلتحق بفرقة موسيقية ضمن الإذاعة. وبالرغم من أن سيرة ونجاح عبد الحليم حافظ يختلفان اختلافاً شديداً عن آخرين تلمسوا طريق الغناء بعده، كهاني شاكر مثلاً، والذي لم يكن بوسعه الظهور، لولا أقلام الصحافة العربية، وأبواق الإعلام الرسمي في ذلك الوقت، وكذلك الفنانة أم كلثوم التي لعبت دوراً كبيراً في إبراز موهبة شاكر الغنائية داخل عدد من المحافل العربية، حتى بات شاكر اليوم رقيباً على التجارب الغنائية الجديدة، وصارت باسمه تنطبع نجاعتها وموهبتها، ولا يُمكن أن تخرج عن طاعته بوصفه "أستاذاً"، علماً أنّه وجه من وجوه السلطة في وقتنا الراهن لا أكثر. كما أنَّ أغانيه ظلت تعبيراً عن طبقة برجوازية مُترفِّعة عن آلام الشعب والأصوات الغنائية الجديدة التي تنبت في الهامش، وتُحاول جاهدة شق طريقها نحو النجاح عن طريق الإذاعة أو الحفلات أو المهرجانات التي أصبح يتحكم فيها الرقيب هاني شاكر وأشباهه داخل مصر.

المتأمل جيداً للمشهد الغنائي المصري يتلمس عن كثب قيمة عبد الحليم حافظ وقدرته على التوغل والاستيطان في جسد فنانين جدد. حتى لو كان قد رحل منذ أواخر السبعينيات، فأغانيه وشخصيته وصوته حاضرة داخل المشهد الفني المصري. كما لو أن روحه تأبى الاندثار والرحيل، لذلك لا ينتابنا الشك والعجب حين نرى بعض الأجيال الجديدة، والتي تبدو وكأنها نسخ مُصغرة عن عبد الحليم حافظ، باستثناء قلة، من بينهم مدحت صالح، والذي استطاع أن يتخلص من تأثير "العندليب" وعلي الحجار على مساره الغنائي، محاولاً أن يصنع لنفسه مكانة فنية مرموقة داخل المجتمع المصري، مستفيداً من وجوده ضمن وسط جيل غنائي مميز، وذلك بعد تخلي مصر عن عباءة السياسة والوطنية السائدة في زمن عبد الحليم حافظ. لهذا يُعد مدحت صالح نموذجاً أصيلاً للأغنية المصرية، وصُورة مُستحبة لفنان كبير ومتواضع وغير واهم ومدعٍ للنجومية، بل ومُنفلتاً من قبضة التقليد الذي طبع أعمال هاني شاكر. إذْ لم يستطع شاكر مع مرور سنوات التخلي عن طريقة أداء عبد الحليم حافظ، كما أنّه لم يستفد من تجربة عمله مع كبار الملحنين آنذاك، كصلاح الشربيني وحسن أبو السعود، لدرجة أن أغنيته الأولى التي غناها في بداية السبعينيات اعتقد المصريين للوهلة الأولى أنها لعبد الحليم، ما يفسر هذا التأثير منذ بداية مشواره إلى اليوم.

وبالرغم من نجاح سهراته وحفلاته ومداخيلها، ظل هاني شاكر متقوقعاً في جبّ وعباءة عبد الحليم، لم يخرج من رومانسيته وبكائيته ورِقة صوته وعذوبته. لكن الأمر الوحيد، والذي لم يأخذه عنه، هو صِدقه وتواضعه وترفعه عن أي تزلف لمؤسسة أو سُلطة سياسية أو فنية، ولا ابتغى يوماً أن يُعيّن نفسه رقيباً على أصوات الناس ومواهبهم.
المساهمون