فارس يواكيم يتذكّر: محمد عبد الوهاب وأثر أحمد شوقي وفوبيا الطائرات


01 ابريل 2019
محمد عبد الوهاب في عيد ميلاده الـ71 (أرشيف هالتون)
+ الخط -
بين المسرح والإذاعة والموسيقى قضى فارس يواكيم (1945 ــ مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات التي شهدها عالم الفنّ. ابتداء من اليوم، تنشر "العربي الجديد" كل يوم إثنين، مذكّرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيداً محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.


فارس يواكيم
كان لقائي الأول بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب في غابة الأرز في لبنان بانتظار عرض المسرحية الغنائية "هالة والملك" (فيروز/ الأخوين رحباني) في صيف 1967. كنت أجلس في الصف الثالث خلف مقعده بالضبط وهو في الصف الثاني. جلست في الصفوف الأمامية لا بصفتي الشخصية وإنما حصلت على البطاقة من نسيب لي ذي مكانة في الدولة حالت ظروف دون ذهابه فأهداني بطاقته.

في كل الأحوال كنت سعيداً للغاية لأنني التقيت بالموسيقار وكانت المرة الأولى. صافحته وعبّرت له عن إعجابي الفائق به ملحناً ومطرباً. شكرني بتهذيب وانتهت المقابلة. كان عبد الوهاب قلقاً بانتظار أن تغني فيروز لأول مرة لحنه لقصيدة "سكن الليل". وجرت العادة على أن يسبق عرض المسرحية، تقديم أغنية، نصّها من إحدى قصائد جبران خليل جبران المولود في بلدة بشرّي الواقعة على تخوم غابة الأرز.

لكن الجمهور فوجئ يومها بقصيدة أخرى كتبها ولحنها الأخوان رحباني استهلت الحفل. ليلتها غنت فيروز لأول مرّة "زهرة المدائن". استقبلها الجمهور بحفاوة غير مسبوقة. طبعاً الأغنية رائعة كلاماً ولحناً وأداء. لكن كان للظروف السياسية آنذاك تأثير خاص. لم تكن الجراح التي خلفتها نكسة حرب يونيو/حزيران قد التأمت بعد. وكان الغضب العربي بحاجة إلى من يعبّر عنه، فجاءت الأغنية استجابة لذلك. كانت فيروز تنشد "الغضب الساطع آتٍ" وكان الآلاف يردّون "آتٍ" ويهدر صوتهم فوق غناء الكورس.

بعدها رحل الكورس وعادت فيروز وحدها إلى المنصة لتغني "سكن الليل". وكان الجمهور ما زال منتشياً بـ"زهرة المدائن" وأصداء التصفيق الراعد تتردد في أرجاء الغابة. طغى ذلك على أغنية "سكن الليل" فلم تحظَ بما تستحقه من إعجاب. لم ينتبه الجمهور إلى جمالها. وكنت أرى عبد الوهاب يشدّ أطراف العباءة التي كان يرتديها بعصبية. وكان ردّ فعله بديهياً ومبرّراً. والحق يقال إن الأغنية حين أذيعت فيما بعد في ظروف مختلفة، حظيت بالإعجاب الكبير ونال لحن عبد الوهاب الرائع ما يستحقه من حفاوة. وكان سيلقى الحفاوة نفسها، لو قُدّم للناس ليلتها قبل "زهرة المدائن".

بعدها التقيت بعبد الوهاب مرتين عابرتين. مرة في "تلفزيون لبنان" وكان يسجل مقابلة مع ليلى رستم، ومرة في مدينة زحلة (شرق لبنان) يوم حضر المهرجان الشعري الذي أقيم لمناسبة تنصيب تمثال أحمد شوقي في "كازينو عرابي" تكريما لأمير الشعراء.



اللقاء الباريسي
في باريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي سعدت بلقاءات كثيرة معه. تعددت الجلسات ودار الحوار مطوّلاً. كان يقيم في فندق "إنتركونتننتال" طول أشهر الصيف ضيفاً على الأمير السعودي بدر بن عبد العزيز. مثله مثل الضيوف الآخرين: وردة الجزائرية، والممثلة السينمائية ليلى فوزي وزوجها المذيع جلال معوض، والصحافي محمد بديع سربية، والفنان محمد سلمان الذي عرفني على الموسيقار الكبير. أخبرني أن عبد الوهاب "غير ملزم بالبقاء في مجلس الأمير مع الضيوف الآخرين حتى آخر السهرة، فكان ينسحب وينام مبكراً. وبالتالي يستيقظ قبل الآخرين، ويهبط إلى صالون الفندق حوالي الظهر ويمكث وحده. فانتهز الفرصة وحاوره كما تشاء".
وفي الجلسة الأولى أثبت له أنني معجب أصيل بألحانه وبأدائه، مع أمثلة، جعلته يشعر بأنني لا أجامل لكني أمتدحه بمعايير فنيّة. فارتاح لمجلسي وربحت فرصة اللقاء المتكرر به.

حقيقة كنت مقتنعاً – وما زلت – بأن محمد عبد الوهاب هو موسيقار القرن العشرين. زكريا أحمد ورياض السنباطي وبليغ حمدي ملحنون كبار أيضاً. وكل منهم أبدع بلون معين. زكريا في التطريب والسنباطي في تلحين القصائد وبليغ في الإيقاعات الشبابية. وعبد الوهاب أبدع في كل هذه الألوان. أطرَبَ مثل زكريا. لكن لا أتخيل زكريا قادراً على تلحين "وف يوم صحيت على صوت فرح" (نجاة) أو "اسهار بعد اسهار" (فيروز) أو "جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ببيروت" (صباح) أو "ست الحبايب يا حبيبة" (فايزة أحمد).. وهو لحّن لوردة ولعبد الحليم حافظ مثل ما لحّنه لهما بليغ حمدي.

كان عبد الوهاب يحبّ المشي ويمارسه في الممر الطويل أمام غرفته، وأحياناً في الصالون. رافقته مرّات. وأخبرني أنه يخشى البرد الذي يمكن أن يغشى باريس في أوج الصيف. ذات مرة أرسلني لأستطلع حالة الطقس فأخبرته أنه ربيعي والسماء صحو. ذهب مشياً على الأقدام من الفندق حتى ساحة الأوبرا (المسافة لا تتجاوز الكيلومتر) وطلب الجلوس في المقهى الشهير Café de la paix قال إنه كان مقهى أحمد شوقي المفضّل وإنه جلس فيه أول مرة برفقته وكان شوقي اصطحبه إلى باريس في مطلع العشرينات. 


محمد عبدالوهاب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر (فيسبوك) 









الأب الروحي
وأخبرني عن تصوير فيلمه الأول "الوردة البيضاء" في باريس سنة 1933 لضمان جودة الصورة والصوت. وكان من أوائل الأفلام العربية الناطقة. ولم يكن شوقي موجوداً إذ كان توفي قبل سنة. وكان الفيلم من إخراج محمد كريم وتم تنفيذه في استوديو Tobis. أخبرته أنني خريج معهد السينما في القاهرة وكريم كان العميد في سنتنا الدراسية الأولى. قال عبد الوهاب: "سمّيناه كريم هتلر. كان انضباطياً وسلطوياً زيادة عن الحدّ ودارس في ألمانيا وزوجته ألمانية".

ظل أحمد شوقي الأب الروحي والمثل الأعلى لعبد الوهاب طول حياته. منه تعلم ما لم يتعلمه في المدرسة التي غادرها مبكرا. أخبرني أن شوقي أهدى له مجموعة أسطوانات فيها سمفونيات عمالقة الموسيقى من بتهوفن وموتسارت وشوبان وسواهم. وكان يستمع إليها ومعه محمد القصبجي ثم يعزفان معا السمفونية على العود! هكذا تعلّم التراكيب الموسيقية الكلاسيكية.

وحكى لي عبد الوهاب أنه ارتجل لحن "جارة الوادي". كان برفقة أحمد شوقي يوم زار زحلة سنة 1927 ومعه القصيدة. ولم يكن شوقي يلقي قصائده بل يكلّف أحداً بذلك. وغالباً كان الصحافي فكري أباظة. وكان فكري الرفيق الآخر، "وكان معنا في الفندق يراجع قصيدة شوقي التي سيلقيها أمام محفل أدباء زحلة. كان يردد الأبيات بصوت عالٍ ليتمّرن على الإلقاء. وفورا لحنتُ ثمانية أبيات منها. وقال شوقي "فكري ح يقرا القصيدة وعبد الوهاب ح يغني الأبيات".

وظل أحمد شوقي مرجعيته في النقاش وكان يستشهد بأبيات له وأقوال. سألته مرّة بماذا يردّ على الذين اتهموه باقتباس ألحان غربية فأجاب: "كان أحمد شوقي يقول لي في الشعر العربي فيه حاجة اسمها التضمين".. قلت: في الشعر نضع الشطر المقتبس بين قوسين، فأين تضع القوسين في الموسيقى؟ أجاب بعفوية: مطرحهم! ضحكت وضحك واعتبر الضحك إجابة.
ومرة سألته عن اقتباساته من الموسيقى العربية، وقلت له إن لحنه لبيت "يا رايح للّي فايت لي عيوني سهرانة ولا داري" الذي تغنيه نجاة الصغيرة في "القريب منك بعيد" مشابه كثيرا للحن فيلمون وهبي لفيروز في أغنية "مرسال المراسيل" في البيت الذي تنشد فيه "بتجيب لي منه تذكار شي ورقة وشي صورة" فقال: "مفيش شبه.. يمكن تأثر غير مباشر". وأحسستُ أنني سأفشل إذا جادلته موسيقياً فلزمت الصمت.

محمد عبد الوهاب مع زوجته الثالثة نهلة القدسي (فيسبوك) 





أم كلثوم تعترض

مرّة سألته عن عادة أم كلثوم في تغيير بعض كلمات الأغاني فأجاب: "هي غيّرت الكلمة الأولى في "إنت عمري". حوّلتها من "شوقوني عينيك" إلى "رجعوني عينيك" وكان تغييراً موفقاً وافق عليه فوراً كاتب الكلمات أحمد شفيق كامل". فألقيت السؤال التالي: "حسناً.. لماذا في أغنية الأطلال غيّرت "فيه نبلٌ وجلال وحياء" وجعلتها "فيه عزٌّ وجلال وحياء". الفرق بين نبلٌ وعزّ واهٍ..؟" قال: "هو مش لحني زي ما انت عارف.. ده لحن السنباطي. لكن بصراحة ممكن أفهم السبب. عزٌّ ألطف في الغناء. جرّب تلفظ نبْلٌ.. الباء الساكنة في الوسط غير مريحة.. المدّ في "عزّ" أفضل".
وأضاف: "التغيير الأكبر حصل في قصيدة جورج جرداق "هذه ليلتي". من ألحاني وأداء أم كلثوم. جرداق كان كاتب المطلع: "هذه ليلتي، وهذا العودُ/ بثّ فيه من سحره داوودُ/ فاملأ الكأسَ واسقنيها وهاتِ/ كلّ ما طاب من فتون الحياةِ". أم كلثوم اعترضت على "داوود". وجرّب جورج جرداق يقنعها. ذكّرها إن هي غنّت "جرت على فم داوود فغناها" في "سلوا كؤوس الطلا"، وكان ردّ الست : "أيوه. احنا المسلمين والمسيحيين نجلّ النبي داوود. وصحيح غنينا اللي غنيناه. بس أيامها ما كانش فيه إسرائيل ولا نجمة داوود".
وعلى هذا الأساس غيّر جورج جرداق المطلع وأصبح "هذه ليلتي وحلم حياتي/ بين ماضٍ من الزمان وآتِ/ والهوى أنت كله والأماني/ فاملأ الكأس بالحنان وهات".




وكنت أعرف عن خوف عبد الوهاب من السفر بالطائرة. سافر بالسفينة دائما إلى بيروت، أو إلى مرسيليا ومنها بالقطار إلى باريس. وتعذّر عليه ذلك إثر توقّف الرحلات البحرية، فاضطر إلى الطائرة. وفي اليوم الأخير من إقامته الباريسية ذهبت لأودعه. كان يستعد لمغادرة الفندق وهو في حالة هلع. يرتجف ويردد آيات من القرآن الكريم. يحيط به القنصل المصري وأركان السفارة ويأخذ اثنان منهما بيديه ويرافقانه إلى السيارة التي ستوصله إلى المطار. سلّمت عليه فاكتفى بإيماءة برأسه وقدّرت ظروفه.



يوم الإثنين المقبل، يروي فارس يواكيم، لقاءه الأول بالفنان عبد السلام النابلسي، وسيرة هذا الفنان الكبير الذي هرب من مصر ليخسر كل مدّخراته في بيروت.
المساهمون