4 أفلام لبنانية في "دار النمر": اختبارات وثائقيّة

04 فبراير 2019
أبو غابي في "قبلات مؤجّلة" لبزجيان (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في "الحوض الخامس" (2011، 84 دقيقة)، يتابع اللبناني سيمون الهبر مسارًا سينمائيًا وثائقيًا، مؤسِّسًا إياه في "سمعان بالضيعة" (2009، 85 دقيقة). والمسار هذا مشروع بصري يجمع بين جماليات التوثيق السينمائي والتعمّق الهادئ والمتأمّل في الذاكرة اللبنانية، المنبثقة من المرحلة السابقة للحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، ومن كابوسها المرير وأسئلتها المعلّقة وتفاصيلها التائهة بين نزاعات وتهجير وعلاقات مبتورة ومصالحة غائبة. والذاكرة فردية، يروي بعضُها عمٌّ له (سمعان بالضيعة)، إنْ يكن المروي شخصيًا أو مرتبطًا بحالة وانفعالات عامّة. فالعمّ سمعان سيكون العائد الوحيد إلى قريته "عين الحلزون"، بعد أعوام مديدة على تهجير أبنائها أثناء "حرب الجبل" (1983). أو يروي بعضها أيضًا أبٌ (الحوض الخامس) لن يكتفي بعيشٍ يُحوِّل محطات عديدة منه إلى مقتطفات سردية يستمع إليها المخرج، ويلتقط نبضها وفضاءاتها ومشاغلها، لأنه (الأب) يُصبح عينًا تعكس ماضيًا وراهنًا، أو شيئًا منهما على الأقلً، وعدسةً تفتح أفقًا أوسع على ذكرياتٍ، يُشارك سائقو شاحنات في مرفأ بيروت (الحوض الخامس تحديدًا) في سردها وتوثيقها شفهيًا أمام كاميرا تجول معهم وبهم في أرجاء ماضٍ وحربٍ، وفي دقائق وهوامش تُضاف إلى متن الحكايات، فتُصبح مرايا ذاتٍ وبيئة ومناخات. 

وإذْ يُحيل تعبير "الحوض الخامس" إلى الجزء المُصادَر من قِبل مليشيا "القوات اللبنانية" أيام الحرب الأهلية، فإن هذا الوثائقي الثاني لسيمون الهبر ـ الذي يفتتح مساء 5 فبراير/شباط 2019 احتفاءً بأفلام وثائقية لبنانية تُعرض في الشهر الحالي في "دار النمر للفن والثقافة" ـ يخرج من المحليّ الضيّق لتلك اللحظة التاريخية، كي يوثِّق جماليًا مفاصل ومسارات لبنانية في الاجتماع والثقافة والسلوك والعلاقات. فالتعبير "المليشياوي" ينتفي وجوده كلّيًا أمام أهمية النص المروي على ألسنة أفراد يستعيدون عيشًا، ويبوحون ببعض ما في القلب والعقل والروح، إنْ يكن أحدهم جالسًا خلف مقود سيارة أجرة (الشخصية الأساسية) أو يقف آخرون أمام شاحنات يعملون عليها.

والوثائقي الثاني للهبر شهادة سينمائية عن أبٍ له في المرفأ حضور قديم، وله مع سائقي الشاحنات علاقات معرفة، من دون أن يُحصَر في قولٍ لرجلٍ يعيش حياةً كاملةً رغم مرضٍ يُلمّ به، ومع هذا يواجه العدسة كمن يقود سيارته، ويُصارح نفسه أمام الكاميرا كمن يبوح لذاته بحميمية الأشياء، وإنْ بمواربة جميلة واحتيال بديع. ورغم أن المشروع منطلقٌ من "تجربة شخصية" للسينمائيّ الهبر، لمعرفته الشخصيات منذ مراهقته، فإنّ تعابير كثيرة يُمكن استخدامها لوصف فيلمٍ يُشكِّل إحدى المحطّات التجديدية القليلة في صناعة الوثائقي اللبناني الجديد. فـ"الحوض الخامس" رحلة تأمّل في أحوال وحكايات وأناس، تنعدم فيها الحدود لشدّة تداخلها مع الذات والخاص.

وهذا كلّه، بوصفه عناوين نص بصري يصنع من السينما وثائقيًا يغوص في فضاء مدينة وتبدّلاتها عبر أفراد يخوضون، هم أيضًا، تبدّلات شتّى؛ فإن "القطاع صفر" (2011، 64 دقيقة) لنديم مشلاوي (12 فبراير/شباط 2019) غير مبتعد كثيرًا عن الحفر في الذاكرة كمدخلٍ إلى قراءة الراهن، وإنْ بابتعادٍ تام عن الشخصي ـ الذاتي البحت، إذْ يغيب الأب أو العمّ أو أي فردٍ من الأقارب أو "المَعَارِف"، ويحضر مُلمّون بالهمّ الإنساني للذاكرة والتاريخ والجغرافيا والعمارة، وعارفون بمنطقة "الكرنتينا" (الضاحية الشمالية لبيروت)، القريبة جغرافيًا من "الحوض الخامس"، والمنتمية مثله إلى بيئة المليشيا نفسها زمن الحرب الأهلية، بعد تهجير أبناء المخيّم الفلسطيني، المُقيم فيه لبنانيون وسوريون وغيرهم أيضًا.

للتاريخ هنا حصّة أكبر، فالوثائقي الأول لمشلاوي معنيّ بسرد حكاية "الكرنتينا"، الناشئة من تحويل المكان زمن العثمانيين إلى "حجر صحي"، تُدركه تحوّلات شتّى بعضها متناقض مع البعض الآخر، وتُصيبه لعنة تهميش اجتماعي قبل أن يُصبح ركنًا في الأمن والسياسة ومعقلاً لثكنات ستندثر لاحقًا، محوّلة المكان برمّته إلى مصانع ومعامل وشركات وجمعيات. الاجتماع طاغٍ، والقراءة النقدية تكشف مساراتٍ عديدة لحيّز يختبر الناس فيه مغامرات وتحدّيات، ويحمل ثقلاً في الذاكرة، خصوصًا أن ملهى ليليًا سيُقام، في تسعينيات القرن الـ20، على ما يُقال إنه "مقبرة جماعية" لضحايا مجزرة "مخيم الكرنتينا" (1976).

لعبة العودة إلى الذاكرة عبر راهنٍ مضطرب منطلقٌ توثيقي سردي لـ"قبلات مؤجّلة" (2018، 93 دقيقة) لنيغول بزجيان (21 فبراير/شباط 2019). لكن، مقابل أهوال الحرب وحكايات ما قبلها ومتاهاتها والتباسات اللاحق عليها في فيلمي "الحوض الخامس" و"القطاع صفر"، يُرافق بزجيان 6 فنانين سوريين مهاجرين إلى مدنٍ أوروبية (ألمانيا وفرنسا تحديدًا) جرّاء حربٍ تطحن الجميع في بلدٍ يُراد له الدمار الشامل، أو لأسبابٍ سابقة عليها. والرحلة غير معنية بالخراب السوري مباشرةً، لأن الهمّ الإنساني أقوى من تفاصيل الموت وكواليسه، والبحث في أسئلة الهجرة والهوية والانتماء أعمق من قولٍ عن حربٍ ونزاعات وجهات متقاتلة، رغم أن هذا لن يغيب كلّيًا، فآثار الوحشية التي يُمارسها نظام القتل وجماعات التشدّد بادية في كلمة أو ملمح أو حركة أو نبرة أو حكاية، أو ربما في خفايا حكاياتٍ.

نيغول بزجيان يُتيح للفنانين الـ6 مساحة كبيرة لقول ما يريدون، وللتصرّف كما يشاؤون، وللتحرّك على هواهم. الأسس المطلوبة واضحة بالتأكيد، لكن التفاصيل الذاتية تصنع السرد والذاكرة، وتوثّق لحظة إنْ تكن اللحظة ماضية أو حاضرة. لذا، لن تتداخل الشخصيات، بل تحتل كل واحدة منها حيّزها الخاص كي تقول حكاياتها، فكأن النصّ الوثائقي يقترب من سردية واحدة بأصواتٍ عديدة. أما تبادل المرايا بين نيغول بزجيان وفارتان مغرديتشيان فصائبة في خيارها الجمالي، إذْ يظهران معًا في لقطات قليلة للغاية، كي يتمكّن بزجيان من تسليم الدفّة إلى مغرديتشيان، الذي يُصبح هو المخرج الطامح إلى توثيقٍ بصريٍّ جمالي لتلك الحكايات.

مع شيرين أبو شقرة، يختلف المشهد كلّيًا. فالوثائقي المعنون بـ"لحظة أيها المجد" (2009، 34 دقيقة، 25 فبراير/شباط 2019) يختار مناخًا مغايرًا تمامًا لراهن مُثقل بألف قسوة، أو لذاكرة مخضّبة بألف حكاية، مع أن للذاكرة حضورًا، عبر شخصية وداد، المغنية التي تتنصّل "الشهرة" منها لـ"عوامل عديدة"، مع أن أغانيها تُبثّ دائمًا عبر إذاعات عربية مختلفة ذات زمنٍ مُشبع بفن الغناء والموسيقى. ولاستعادة تلك الحكاية، تستعين شيرين أبو شقرة بنمط بصري يمزج بين سرد تأمّلي بدلاً من التلقين المدرسيّ، وتصوير يميل إلى تجريبٍ تختلط فيه شخصيات ولقطات ومُشاهد تُكثِّف التفاصيل المنشودة في سياق جمالي مُثير لمتعة المُشاهدة.

تجربة "دار النمر للفن والثقافة" في الاحتفاء بهذه الأفلام اللبنانية، التي تُعرض بحضور مخرجيها، تكشف شيئًا من حيوية النص الوثائقي اللبناني، واختباراته المختلفة في صنع متتاليات بصرية تروي ـ بالكلمة والصورة معًا ـ بعض أحوالٍ فردية مفتوحة على حالات وانفعالات عديدة.
المساهمون