يصعب التكهّن بالأسباب التي دفعت الإيطالي بياترو مارتشيلّو، المتخصّص بصناعة الأفلام الوثائقيّة، إلى إخراج أول فيلم روائي له. الأمر لا يتعلّق بإخراج فيلم روائي من عدمه، ولا باتجاهه إلى الأدب واختيار الرواية، بقدر توجّهه إلى الأدب الأميركي تحديدًا لا الإيطالي، فهناك اقتباسه لرواية "مارتن إيدن" بحذافيرها، مع الاكتفاء بنقل الأحداث من أوكلاند في كاليفورنيا، إلى نابولي في إيطاليا، والإبقاء على الاسم غير الإيطاليّ للشخصية الرئيسية، في الوقت نفسه.
اختلاف الأجواء لا يحول دون الاندماج بتفاصيل الفيلم، إذْ نجح مارتشيلّو، ببراعة، مع شريكه في كتابة السيناريو موريزيو براوتشي، في الربط المتين بين النص الأدبي والواقع التاريخي للأحداث في إيطاليا. رؤية مارتشيلّو كامنةٌ في أن يكون الفيلم، بخلفية أحداثه، استعراضًا للمجتمع الإيطالي، مطلع القرن الـ20، وتحوّله إلى الحداثة والتطوّر، وهذا موفّق للغاية.
للمساهمة في تحقيق هذه الرؤية، وخلق الإيهام بتلك الفترة، التي آثر أن تبقى غائمة وعائمة، تراوح بين بداية القرن الماضي والحرب العالمية الأولى، تفنّن بياترو مارتشيلّو في إقناعنا بصريًا بأنّ الفيلم يدور فعلاً في تلك الفترة. لا يقتصر الأمر على اختيار الملابس والإكسسوارات فقط، فالألوان متميّزة ولافتة للانتباه. كما أنّه تعمّد تصوير أجزاء كثيرة من الفيلم بأشرطة خام 35 ملم، عارضًا لقطات طويلة ونادرة لإيطاليا ونابولي مطلع القرن الماضي، تُظهر بؤس البشر والفقر وبدائية الحياة.
هذا المزج الرائع ساهم في تحقيق انسيابية "مارتن إيدن"، بالإضافة إلى مونتاج ألين هيرفي وفابريزيو فيديريكو. طبعًا، هناك لقطات صوّرها أليساندرو أباتي وفرانشيسكو دي جياكومو. لذا، فإنّ أول ما يلفت النظر هو ملمس الفيلم، إن جاز التعبير: درجات اللون والتصوير والإضاءة واللقطات الأرشيفية والأزياء، وخلق أجواء مطلع القرن الماضي. إلى ذلك، هناك قصّة حبّ رومانسية، وعوالم الأدب والأدباء والسياسة والسياسيين، واستعراض حياة البروليتاريا والبورجوازية.
لذا، يُعيدنا الفيلم بسهولة، في لحظات كثيرة، إلى أفلام أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته وستينياته، ويستعيد قصص أفلام فرنسية وإيطالية عديدة (الرومانسية منها خاصة)، وأجوائها وأبطالها.
"مارتن إيدن" مأخوذ من رواية بالعنوان نفسه (1909)، للأديب والصحافي والناشط الاجتماعي الأميركي جون غريفيث شاناي (1876 - 1916)، المشهور بجاك لندن، ظلّت مُتربّعة على عرش أفضل المبيعات أعوامًا طويلة. (ترجمها أسعد الحسين إلى اللغة العربية، وصدرت عن "دار نينوى" عام 2011). قصّة الرواية/ الفيلم باتت مُستهلكة جدًا، رغم أن الرواية لم تُقتَبس للسينما إلا نادرًا جدًا، وأبرز الاقتباسات أجراها الأميركي هوبارت بوسْورث عام 1914.
ذات يوم، يُنقذ البحّار مارتن إيدن (لوكا مارينيلّي) الشاب الثري أرتورو أورسيني (غويسْتِنيانو ألبي) من رجل أراد الفتك به، في ميناء نابولي، فيدعوه أرتورو إلى غداء في قصر أسرته. هناك، يلتقي أسرة أرتورو، وشقيقته إيلينا (جيسيكا كْرَاسّي).
رغم تظاهره بمعرفته الفرنسية وقراءته بودلير، تكشفه إيلينا، المتعلّمة والمثقفة، سريعًا وبسهولة. مع ذلك، تنبهر بذكاء مارتن وجاذبيته وشهامته، لكنها تنصحه بالعودة إلى مقاعد الدراسة مجدّدًا، ليتسنّى له التحدّث بشكلٍ أفضل، وربما التعبير عن ذاته وأفكاره بطلاقة، وليمتلك أسلوبًا خاصًا به، وشخصية متميّزة.
لانجذابه الشديد إليها، ولاحقًا لحبّه لها، يعود مارتن إيدن إلى مقاعد الدراسة. هو ليس جاهلا تمامًا، لكنه لا يُتقن الإيطالية، إذْ إنّ لغة أهل نابولي تختلف عن الإيطالية الفصحى. كما يتعيّن عليه تعلّم الإيطالية أساسًا، لمواصلة تعليمه. لكنه يرسب في اختبار اللغة الإيطالية، ويُرفض طلبه. عندئذ، تتأجّج الجمرة في داخله، فيظهر شغفه بالتعلّم والدراسة والقراءة، إذْ لم يعد يقتصر الأمر على رغبته في أن يكون جديرًا بالتقدّم للزواج من إيلينا، بل هوسه في أنْ يُصبح كاتبًا، وفي إيمانه بنفسه وموهبته الفذّة كأديب.
يستعرض الفيلم معاناته ليصبح أديبًا مشهورًا، والمصاعب التي تواجهه من أجل هذا. السرد موجز بعض الشيء، من دون الغرق في تفاصيل كثيرة، ومع كليشيهات معروفة وقليلة في استعراض رحلات عصامية كهذه. يتوقّف الفيلم قليلاً عند علاقته بشقيقته التي تحبّه، وبزوجها الذي طرده من المنزل، بسبب عطالته وتفرّغه للكتابة. كذلك، علاقته بالأرملة الطيبة ماريا (كارمن بومّيلّا)، التي تعطف عليه وتحتضنه كأحد أولادها، وتمنحه مأوى في منزلها المتواضع، وتشدّ من أزره، وتعضده، حتى يفلح في نشر أولى قصصه.
خلال ذلك، يتواصل مارتن مع إيلينا، التي بدأت تيأس منه، لأنه لا ينصت إلى نصيحتها بالبحث عن عمل لمستقبلهما، ولا لمصارحتها إياه بأنّه غير موهوب، وبأنّ لغته فقيرة. ذات مرة، تخبره بأنّ قصصه تضجرها وتحزنها، فينفجر بها، بعد أنْ يأخذها عنوة إلى أحد الأحياء الشعبية، ليريها كيف يحيا أبناء طبقة البروليتاريا: "أمثالك لا يمكنهم فهم بؤس الجياع". في النهاية، تهجره وتخبره بضرورة نسيانها، بعد شعورها بمسافة شاسعة بينهما، ماديًا وأدبيًا وفكريًا.
قبيل انفصالهما، يتعرّف مارتن على الشاعر والصحافي والناشر المعروف روس بريسيندين (كارلو تشيكي)، في حفلة في قصر إيلينا، وهو سيكون له بمثابة العرّاب، أو الناصح الأمين، كما أنّه أول من عرَّفه وأدخله إلى الأوساط السياسية الاشتراكية. بعيدًا عن الأدب وجهوده، تبرز شخصية مارتن، وتتبلور.
البحّار القادم من قاع المجتمع، يثور على ما يصفه بـ"مجتمع العبيد"، في مؤتمر اشتراكي، قائلاً إنّ مجتمعًا يتجاهل ويقف ضد قوانين التطوّر وما يحمله المستقبل، يتوقّف عن التقدّم، ولا بدّ أن ينهار.
رغم بروز الخطين السياسي والاجتماعي، من دون طغيانهما على الأحداث، يتمحور الفيلم أكثر على شخصية مارتن إيدن، محاولاً تفكيكها على أكثر من مستوى، فيستغرق وقتًا طويلاً لتوضيح الشخصية الغريبة، التي تنادي بالفردية، وتعتنق الفلسفة الفردية، لكنها لا تدين الاشتراكية إدانة مطلقة. في الوقت نفسه، لا يتبرأ مارتن من طبقته الجديدة، التي أدانها سابقًا وتمرّد عليها، بعد نجاحه الكبير وتحقيقه أقصى درجات الشهرة. يترافق هذا وصعوده إلى قمّة المجتمع البورجوازي.
يهاجم الأدباء والمثقفين ويدينهم، لكنه ينتمي إليهم. يسخر من الفتاة التي ارتبط بها عرضًا، لكونها لا تستطيع صوغ جملة صحيحة، بينما كان هو أكثر جهلاً منها سابقًا. هنا، تبرز جماليات الشخصية، وهي ليست جماليات التناقض، بل الحيرة وجهل المرء ما يريد. والأهم، ورغم الثروة والشهرة، هناك حزن وتعاسة غير مبرّرين.
ورغم أنّه يدور حول عصامية أديب حقّق مجدًا وشهرة، مع إدخال عناصر اجتماعية وسياسية من مطلع القرن في إيطاليا المعاصرة، إلّا أنّ "مارتن إيدن" يتمحور أساسًا على شخصية حققت النجاح في كل ما ابتغته، وبسرعة فائقة، لكنها لا تشعر بالسعادة أبدًا. ورغم رجوع إيلينا إليه، بعد تحقيقه مجده وما وعدها به، إلا أنّه يطردها بقسوة وفظاظة من قصره. بعد هذا، تتجلّى أزمة الشخصية على نحو ساطع.
باختصار، ورغم كلّ ما حقّقه، لم يشعر مارتن إيدن بالسعادة. جلوسه متأمّلاً البحر، في الختام، يُوحي بما سيُقدِم عليه.