ماريو مارتوني: إعادة الاعتبار إلى الطبيعة من خلال الصورة السينمائية

27 يناير 2019
"كانت "كابري" مركزاً للحالمين بداية القرن الـ20" (Getty)
+ الخط -
يروي المخرج الإيطالي ماريو مارتوني، في فيلمه "ثورة كابري"، حكايات فنانين شباب في الجزيرة الإيطالية "كابري"، قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. "العربي الجديد" التقت مارتوني، وأجرت معه الحوار التالي. 

(*) هل هذه الحكاية حقيقية عن جزيرة "كابري"؟
ـ كانت "كابري" مركزًا للحالمين جميعهم في بداية القرن الـ20، أي أولئك الذين كانوا يحلمون بالتغيير. تخيّل أنه، منذ تلك الأيام، كانوا يحلمون بما نحلم به الآن. طبعًا، كان الأسلوب الذي ينتهجونه متطرّفًا بعض الشيء. و"كابري"، في الأحوال كلّها، في منتهى الغرابة، كأنها قطعة من سلسلة جبال الـ"دوموليت" في البحر الأبيض المتوسط. فيها شيء من قوة هوميرية.
في "كابري"، كانت هناك جماعة من الحالمين إذًا. أحدّثك عن مطلع القرن الماضي. هذه قصّة قديمة جدًا. انطلقنا من مادة حقيقية، واشتغلنا عليها، وألّفنا حولها حكاية مع تفاصيل كثيرة من الخيال، وخصوصًا في ما يتعلّق بالشخصيات، وفي مقدّمتها شخصية الراعي. هذا كلّه من خيالي.
باختصار، "ثورة كابري" عن أناس يحاولون العيش بطريقة أخرى، ويتحدّون القوالب الاجتماعية الجاهزة. أردتُ توثيق لحظة بزوغ هذه التيارات التي آمنت بالتغيير الجذري. لهذا السبب، اخترتُ ممثّلين شبابًا في مقتبل أعمارهم.

(*) هذا اكتشاف ملهم لي. لم أكن قد سمعتُ عن حكاية كهذه من قبل. ما الذي أردتَ القول من خلالها؟
ـ أنا أيضًا اكتشفتها مثلك في يوم من الأيام. كانت لحظة سعادة بالغة. لم أسمع عنها أي شيء من قبل. الفيلم ولد في اللحظة التي اكتشفتُ فيها الحكاية. عندما نظرتُ إلى هؤلاء الناس الذين عاشوا في "كابري" مطلع القرن الماضي، وإلى وجوههم وملابسهم وطريقة تحرّكهم، اعتقدتُ أنهم "هيبيز"من الستينيات الفائتة، رغم أنّ فصول القصّة تجري عام 1914، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قليلة. لعلّ هذا أكثر ما صدمني وفاجأني. شعرتُ أني أمام طريق مختصرة، تأخذني من حقبة تاريخية إلى أخرى. أو دعني أقُل لك إنها "قفزة في الزمن".
إلّا أنّ أكثر ما حمّسني لتصوير الفيلم هو أنّ قصة كهذه تسمح لي بالتحدّث عن الحاضر أيضًا. أنا أميل جدًا إلى حكايات الماضي التي تغمز من قناة الحاضر، أو تُمهّد الطريق أمام واقعنا المعاصر.

(*) في تقديري، أن هذه المرحلة (مطلع القرن العشرين) كانت مختبرًا، وهي تستشفّ ما ستؤول إليه أحوال العالم في العقود التالية.
ـ كان القرن الـ20 واعدًا، لكن الانتكاسات العديدة التي حلّت به أثقلت كاهله. هذه القصّة كنسيمٍ عليلٍ هبّ على الزمن، فأعاد بعض الأمل الذي كان مفقودًا. هناك شيء يتعلّق بالخيال في هذه القصّة. تلك القدرة على أنّ نتخيّل مستقبلًا حرًّا يُحبط الانغلاق كلّه الذي نعيشه اليوم في عالمنا. هكذا أزهرت هذه الأفكار الطوباوية التي تقترح حلولاً بديلة للحياة التي كنّا نعيشها في أوروبا. أفكار بدأت تتسلّل إلينا، وتُحاكي متطلبات الإنسان، إلّا أن هذا كلّه انتهى وقُضي عليه بعد الحربين العالميتين اللتين عاشتهما أوروبا. وُلدت هذه الـ"يوتوبيا" مُجدّدًا في الستينيات الفائتة في الولايات المتحدة الأميركية، لأن الحاجة إلى الحلم كانت ملحّة وكبيرة.
صحيح ما تقوله. عندما نُقيّم الأشياء اليوم عن بُعد، نجد أن هناك صلة خفية بين الحقبتين.

(*) ما نراه في "ثورة كابري" هو أنه حتى الأفكار الثورية التي تصوّرها غير قادرة على تغيير شامل. العقول متحجّرة رغم كلّ شيء.
ـ لا أرى أنه يُمكن بناء عالم أفضل. هذا مصيرنا: أن نعيش دائمًا في صراعات مفتوحة وحروب دائمة ومتواصلة. هذه الصناعة يتقنها الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض. لكن، في المقابل، من الصحّي جدًا أن نظلّ نبحث عن التغيير، ونجنّد طاقاتنا كلّها من أجل تحقيق ذلك.
هذا فيلم حيث الصغير يعيش صراعًا مع الكبير. هذا طبيعي، لأنّ مَن ألهمني هو الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي. في هذا المعنى، يكاد يكون امتدادًا لأحد الأفلام التي أنجزتها عنه.

(*) انشغالك بالماضي، وتحديدًا قصّة أناس يسعون إلى حياة أفضل، بعيدًا من "قيم" الاستهلاك والرأسمالية، هل يُمكن قراءته كعدم رضى عن وضع العالم اليوم، خصوصًا في بلدك إيطاليا؟
ـ لا أعتقد أنّ ما يحصل حاليًا محصور بإيطاليا. هناك أسئلة كبيرة لم نجد لها أجوبة أو حلولاً نحن البشر، ولطالما كانت مؤجّلة، وها هي تطفو على السطح حاليًا. النموّ بلغ درجة لم يعد التحكّم به ممكنًا: التلوّث، التضخّم المالي، استغلال الناس في وظائفهم، إلخ. هذه هي مشكلتنا اليوم في عالمنا المعاصر، وهي حصيلة تراكمات كبيرة تعود إلى بداية القرن الماضي. لا شيء يأتي من فراغ. المشكلة مع عالمنا الحالي هي أنه لا يُقدم أيّ حلّ أو أيّ بديل لعِلَلنا كلّها. هذا ما نعانيه جميعًا، وهذا ما يجب وضعه على بساط البحث.
منذ القرن الـ18، طرح ليوباردي سؤالًا مُهمًّا: هل التطوّر يجلب السعادة؟. فرغم الثورات التي أوهمت العالم بالتغيير، والحروب التي اندلعت بعدها، لا يزال الإنسان يتألّم، ولا يزال عرضة للاستغلال على يدي الأقوى والأكثر نفوذًا منه. لذلك، من الطبيعي أن يفكِّر بوسائل عيش أفضل. السؤال المطروح دائمًا، الذي يظهر بين الفينة والفينة، هو: هل توجد طريقة أخرى لتنظيم المجتمع؟ وأيضًا: هل نحن على استعداد لأن نتخلّى عن بعض ما اكتسبناه نتيجة الثورة التكنولوجية، التي شهدها العالم في العقود الأخيرة؟ هذه بعض الهواجس التي يطرحها "جزيرة كابري" من دون أن يدّعي أنه يمتلك أجوبة.

(*) ماذا عن الجانب البصري؟ هذا فيلم مشغول بإتقان.
ـ كانت الفكرة إعادة الاعتبار إلى الطبيعة، من خلال الصورة السينمائية. هناك علاقة بين الطبيعة والجمال، وهذه العلاقة هي ما أردتُ ان أركّز عليه. أحببتُ جدًا العمل مع مدير التصوير الشاب ميكيلّي داتاناسيو. أجده صاحب رؤيا. كان هذا أول تعاون بيننا، وسنواصل العمل معًا لاحقًا.

(*) من الممكن تلقّي الفيلم كبيان سياسي.
ـ الفيلم سياسي جدًا. لكن، دعنا نتفق على تعريف السياسة. إذا كان المقصود بهذا أن الفيلم ملتزم سياسيًا بالمفهوم المدني، أقول لك لا. ما أفهمه بالفيلم السياسي كامنٌ في أنه يعني قبول التنوّع وأهميته في تطوير المجتمع.

(*) الفيلم غنيّ بالمرجعيات الثقافية والسينمائية.
ـ صحّ. هناك شخصية لوتشيا، التي تذكّر بآنا مانياني في "الحبّ" (1948) لروبرتو روسيليني. هناك شيء من "نقطة زابريسكي" (1970) لميكل أنجلو أنطونيوني. هناك الكثير من "الاحتقار" (1963) لجان ـ لوك غودار. نباتية ليو تولستوي حاضرة كذلك. أنا شخصيًا لستُ نباتيًا، لكني أفهم الخيار السياسي الذي تمثّله النباتية للأجيال الحالية، كردّ فعل مباشر على عقود من الاستهلاك العشوائي. كما لا تغيب أيضًا تجارب فنية خاضها الفنّان الألماني جوزف بويز الذي يقول إن التعقيد هو محرّك الإبداع. مجرّد الوجود في هذا العالم أمرٌ في غاية التعقيد، ولا يجوز التفكير بأن الحلّ هو برمي 4 شعارات.

(*) ماذا تستطيع السينما أن تفعل حيال هذا كلّه؟
ـ السينما فنّ جماعي يتوجّه إلى طبقات المجتمع كلّها، على اختلاف اهتمامات الناس وأهوائهم. حتى من دون أن يعوا ذلك، فإن الفنّ يُغيرهم. أن تجلس في صالة أمام شاشة، فهذا عملية تغييرية. لعلّه لقاء بينك وبين الآخرين. كذلك عندما نطالع كتابًا، هناك دينامية في الكتاب، وهذا يجعلنا أحياءً. جوزف بويز يقول: "كلّ إنسان فنانٌ على طريقته".
دلالات
المساهمون