كوميديا مكان العمل

18 ديسمبر 2018
من مسلسل It’s always sunny in Philadelphia (غيتي)
+ الخط -
منذ أكثر من نصف قرن، وجدت الكوميديا ضالّتها في أمكنة العمل؛ ككيانٍ حاضرٍ مليء باليوميات والمفارقات، تجتمع بها شخصياتٌ من مشارب مختلفة، فإن وضعت ثلّة من الغرباء ضمن قواعد وأخلاقياتٍ للتعامل إلى جانب سلّمٍ من التراتبية المهنيّة، بالإضافة إلى البيروقراطية والروتين، تتشكّل النواة الكافية لإعادة تعريف المألوف والخروج عنه؛ واللافت أن بعض هذه المسلسلات الكوميدية التي تصوّر يوميات العاملين ضمن بيئة العمل استمرّت لفتراتٍ تناهز العقد أحياناً؛ بالذات بين السبعينيات والثمانينيات في القرن الماضي.

فكرة العمل اليومي
حرّك الكوميديان البريطاني ريكي جيرفايس المياه الراكدة لهذا التصنيف عندما قدّم مسلسل The Office البريطاني، بداية الألفية. استطاع المسلسل المكوّن من موسمين جذب الأنظار وأعاد الهيمنة التي فقدتها كوميديا أمكنة العمل لصالح الكوميديا الرومنسية في التسعينيات. جاءت الفكرة المبتكرة بجعل المسلسل يبدو كسلسلة وثائقية ساخرة Mockumentary عبر أسلوب التصوير المتّبع، إلى جانب إعطاء الشخصيات فترات للتحدث للكاميرا. جلب هذا النجاح الثراء والشهرة لمبتكره، إلى جانب استصدار عدّة مسلسلاتٍ بذات العنوان حول العالم، بلغ عددها تسعة، من ضمنها الألمانية والإسبانية واليابانية؛ أشهرها وأطولها هي النسخة الأميركية المكوّنة من تسعة مواسم.
أفسحت هذه النقلة المجال لتقديم رؤية قاتمة بعض الشيء حول فكرة العمل اليومي؛ ولا سيّما العمل المكتبي، إذ نستشعر اللاأهميّة والتفاهة الناظمة للمكان. فالأيام متشابهة، وليس هناك شيء مميزٌ بخصوصها، وهنا مكمن النجاح في صنع كوميديا مضحكة بشدّة في مكانٍ مملٍ وكئيب، بكونها تستعرض بجسارةٍ مجموعة من الشخصيات المضطربة وهي ترتد بأفعالها وردودها حول قضايا مهمّة أو هامشيّة، وهي أيّاً كانت تفوق أهمية العمل الواجب إنهاؤه ضمن ساعات الدوام الرسمي.
لا ينحصر هذا التصنيف بالأعمال المكتبية، وإن كانت الأكثر رواجاً؛ وشهدت السنوات الأخيرة التطرّق إلى مهنٍ غير مسبوقة كما في Veep الذي يتمحور حول نائبة الرئيس الأميركي، وعيادة طبيّة للماريوانا مثل Disjointed، وبالفعل توجد مسلسلات كوميدية عن أي مهنةٍ قد تخطر في البال، كبرنامجٍ تلفزيوني أو إذاعي أو مكتب سيارات الأجرة، ومن أشهرها وأطولها مسلسل Cheers الذي امتد لأحد عشر موسماً إلى جانب It’s always sunny in Philadelphia الذي يعرض موسمه التاسع حالياً؛ وكلاهما يتمحور حول العمل في حانة.

مكان مضيء.. مكان معتم
تعثّرت بداية الموسم الأول للاستنباط الأميركي من The Office واكتفى المنتجون بست حلقاتٍ فقط؛ نظراً للمهمّة الشاقّة في نقل مناخ العمل نحو بيئة أميركية مع الحفاظ على جوهره. لكن، مع بداية الموسم الثاني، وتولّي مايكل شور دفّة القيادة في الكتابة وتنفيذ الإنتاج، تغيّرت الأمور وافترق مسار النسختين عن بعضهما، وأتت الـ 195 حلقة التالية أخفّ وطأة على المتابعين، مع تعدد المحاور وإضفاء لمسة مشرقةٍ على العمل ككل، من دون أن يفقد هويته كمسلسلٍ ملتزمٍ ببيئة العمل وما يترتب على ذلك من هدرٍ وتحطيم الطموحات، لكن كلّ هذا تمّ برفقٍ دون أن يظهر كركيزة أساسيّة كما هو الحال في النسخة البريطانية.
انتقل شور، بعد المواسم التسعة، ليدير مسلسلين ينطويان تحت ذات التصنيف؛ البداية كانت مع Parks & Recreation الذي يدوّن يوميات لمديرية الحدائق والمرافق العامة في بلدة أميركية متخيّلة. العلامة الفارقة هنا في تناول العمل الحكومي؛ وإذا كانت اللامهنية والعشوائية في The Office تحظى بالقبول باعتباره يتناول فرعاً هامشياً لشركة تصنّع الورق، فالحال هنا مختلف بتناول سياسات الحكومة الداخلية. نتابع في العمل، الممتد لسبعة مواسم، الموظفة الطموحة ليزلي نوب، في سعيها لجعل بلدتها مكاناً أفضل، جنباً إلى جنب مع محاولاتها لتحقيق النجاح السياسي الشخصي وتبوّؤ المراكز العليا.
غطّى المسلسل طيفاً واسعاً من الشخصيات الخاضعة للبيروقراطية والمتباينة في اعتقاداتها إزّاء النهج الحكومي، ويتجسّد نقيض نوب بمديرها المباشر رون سوانسون الذي لا يؤمن بالحكومة ويعلم أن لا سبيل لجعل الأمور تسير بشكل أفضل. هذا الصراع وضع المشاهدين في كلّ مرة أمام الواقع وأمام ما يتمنّون حصوله بنجاح النظام ولو لمرة بأن يكون مثالياً وناجعاً في حل مشاكل بلدة ضئيلة ومجهولة؛ في دلالة على الحياة الأميركية اليومية.
هكذا، انتقل شور من نجاحٍ لآخر، ليثبت أنه العالِم بتفاصيل الأمور عندما يتعلق الأمر بالمنشآت الأميركية ونمط الحياة اليومية بشكلٍ عام؛ فكانت التجربة اللاحقة في Broklyn 99 المتمحور حول مركزٍ للشرطة مرحةً ومحفوفةً بالمخاطر؛ خصوصاً مع تعاظم القضايا المثارة حول أهليّة رجال الشرطة وما يُرافق ذلك من عنصريةٍ وقسوةٍ غير مبررة، وتوفّق العمل إلى حدٍّ ما بمهادنته جميع الأصوات وعدم الإساءة للعاملين في السلك البوليسي أو المجرمين في الوقت ذاته. استمر العمل لخمسة مواسم قبل إلغائه من قبل شبكة FOX، ثم التقفته نتفليكس كي تكمله مطلع العام المقبل.
في التجربتين السابقتين، تم الابتعاد عن السوداوية ورُفع شعار البهجة كعنوانٍ لأيام العمل المتتالية. ومع توافر أرشيفٍ هائلٍ من الأعمال الدرامية والحركية التي تتخذ من العمل السياسي أو التحقيقات كثيمة لها، أتى كثيرٌ من الحلقات على شكل محاكاةٍ ساخرة Parody، تستند إلى الرصيد العالي الذي تكوّن ضمن الثقافة الشعبية لدى الجمهور.


الجحيم
عادةً ما تثور الجلبة حول أعمال شبكة Comedy Central. كيف لا وهي الرائدة بطرحها الفجّ والوقح بالنسبة للبعض. التجربة الجديدة التي قدّمتها في مسلسل Corporate الذي يحاكي العمل ضمن بيئة الشركات العملاقة تلقّت التصفيق والحفاوة من النقاد، لكن هذا النجاح النقدي لم يترافق مع تقبّل جماهيريٍّ واسع، فالمسلسل اختار السوداوية منهجاً له وكثّف جرعاته العدمية، ملقياً ظلّاً ثقيلاً على فكرة العمل اليومي في انتظار الموت؛ ضمن شركة تسجّل 18 نوبة هلع سنوياً و7.8 حالات تفكير في الانتحار يومياً، إلى جانب إظهار الفساد المستشري في عوالم الشركات الضخمة، وصولاً إلى حلقته الأخيرة التي تبين الأثر الذي استفادته كبرى الشركات من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر.


من المؤكّد أن كوميديا بيئة العمل لم تعد تحظى بنفس التقدير الجماهيري كما في السابق؛ نظراً للخطوط الحمراء التي تستمر بتجاوزها ونضوج الحالات التي تعالجها؛ ما سبب التوجّه نحو شبكات الكيبل المدفوعة التي تحدّ من الأرقام الخيالية لعدد المتابعين، أسوةً بما سبقها مثل Cheers الذي شاهد حلقته الأخيرة 40% من عدد السكّان في الولايات المتّحدة.
في الجانب المضيء ترتقي التجارب باستمرار، ومن النافل ذكر مسلسل مايكل شور الحالي The Good Place، وإن كان خارجاً عن تصنيف كوميديا مكان العمل؛ إلّا أنّه وضع تصوّراً مهيباً للآخرة جعل فيه الجحيم مكاناً بيروقراطياً يشابه الشركات الكبرى، حيث الغاية من العمل اليومي هي جعل البشر أكثر بؤساً عبر تعذيبهم بكلّ الوسائل التي يمكن تصوّرها.
دلالات
المساهمون