قاسم عبد: "السينما قدري ومعشوقتي التي لا ترحم"

09 نوفمبر 2018
قاسم عبد: أسئلة الوطن والغربة (العربي الجديد)
+ الخط -

للمخرج والمنتج البريطاني، العراقي الأصل، قاسم عبد حضور متميّز منذ عام 2003. خرّيج "معهد الفنون الجميلة" في بغداد، حصل على شهادة ماجيستر من "معهد التصوير السينمائي" في موسكو. عام 1982، انتقل إلى لندن حيث يعيش ويعمل كمخرج. شارك في تأسيس "الكلية المستقلّة للسينما والتلفزيون" غير الربحية في بغداد. عضو لجان تحكيم في مهرجانات سينمائية عديدة، وحائز على جوائز مختلفة، أهمّها جائزة أفضل فيلم في "مهرجان ميونيخ الدولي للأفلام الوثائقية" عن "حياة ما بعد السقوط". له مجموعة من الأفلام الوثائقية، كـ"وسط حقول الذرة الغريبة" و"ناجي العلي، فنان ذو رؤيا" و"حاجز سورد" و"همس المدن".

في حواره مع "العربي الجديد"، يتناول عبد أحوال العراق والسينما فيه، ومعاني الوطن والغربة والمنافي والاشتغالات.

(*) ما هو موضوع فيلمك الأخير "مرايا الشتات"؟
ـ إنه فيلم وثائقي طويل، مدّته 88 دقيقة، وهو يتناول مواضيع المنفى والوطن والهوية والذاكرة والديكتاتورية والحرب، من خلال حياة وقصص وتجارب وإبداع 7 فنانين عراقيين يعيشون خارج بلدهم منذ نحو نصف قرن. يتطرّق لتحدّيات وصعوبات يواجهها هؤلاء منذ أن كانوا طلابًا يدرسون الفن في المعاهد الإيطالية، ويرسمون في ساحات المدن الإيطالية "بورتريهات" و"كاريكاتورات"، إلى أن أصبحوا معروفين في المجال الفني.

سؤالان جوهريان يطرحهما الفيلم: ماذا يعني أن تقضي معظم حياتك في المنفى؟ ماذا يعني الوطن، بعد أعوام البُعد والشتات هذه كلّها؟ في الفترة الراهنة التي نعيشها، هناك كل يوم قصّة مأساوية للمهاجرين الجدد تتناولها وسائل الإعلام. "مرايا الشتات" يساهم في فهم قضية الهجرة (إحدى أهمّ قضايا عالمنا المعاصر) وعالم الشتات والتأرجح العاطفي بين المكان الجديد الذي يعيشون فيه (بلاد المهجر) ومكان الذكريات والأهل والأصدقاء (أوطانهم). كما أنّه يُسلّط الضوء على أهمية الفن والثقافة في تعويض ما فُقِد في الغربة.

(*) يبدو أنه تكريس لحالة المنفى، بمعنى الاعتياد على المنفى كوطن جديد؟
ـ ربما الأفضل القول: "البحث عن الأوطان البديلة"، كما قالت الفنان المقيمة في إيطاليا رسمي الخفاجي، إحدى شخصيات الفيلم. إذا كان هناك ما يستحق الذكر، فإنّ عراق اليوم بلدٌ مختلف بالنسبة إليّ شخصيًا، كما بالنسبة إلى أصدقائي فنانّي المنفى العراقي، الذين ظهروا في الفيلم: جبر علوان وعفيفة العيبي وعلي عساف ورسمي الخفاجي وفؤاد عزيز وكاظم الداخل وبهاء الدين أحمد.

أعرف الفنانين جيّدًا. درسنا معًا في "معهد الفنون الجميلة" في بغداد، وتركنا العراق منتصف سبعينيات القرن الـ20 لاستكمال الدراسة. السينما كانت هدفي وحلمي، أما أصدقائي فكانت الفنون التشكيلية والرسم هدفهم، وهم نجحوا في ذلك، وأنتجوا أعمالاً فنية كثيرة في الرسم والنحت والـ"فيديو آرت" والفوتوغرافيا والغرافيك والخط العربي والملصقات الجدارية وغيرها. كنا خلال الأعوام كلّها على تواصل، ونعرف تفاصيل حياة بعضنا البعض. بالنسبة إلينا، يعكس العمل الفني بوضوح من نحن ومن أين أتينا، كما يعكس ملامح هويتنا الثقافية والإنسانية.

خلال فترة الديكتاتورية، لم نعد إلى العراق لأسباب مختلفة. بعد سقوطها، دفعتنا فكرة العودة وحبّ العراق إلى التفكير بالرجوع. فبعد التغيير الحاصل عام 2003، طُرحت إمكانية البقاء في الوطن. لكن، للأسف، لا أحد منّا استطاع التأقلم مع الواقع الاجتماعي ـ السياسي الجديد، لأن طريقة تفكير الناس والواقع المذكور ورؤيتهم الأشياء المحيطة بهم تختلف كلّها عن طرق تفكير ورؤية العراقيين الذين عاشوا معظم حياتهم في المهجر. كنا ببساطة نصنَّف ضمن مجموعة الغرباء الذين جاؤوا العراق للكسب المادي، ثم الرحيل بعد ذلك.

أنا أحد الفنانين الذين عادوا إلى الوطن ووجدوا أنفسهم في اللاوطن. بعد 10 أعوام من تدريب شباب عراقيين على صناعة الأفلام في "كلية السينما والتلفزيون المستقلّة" التي تم تأسيسها مع زميلتي ميسون باججي، وجدت نفسي غريبًا وغير قادر على التأقلم والبقاء أكثر.

رغم أنّ الطلبة الذين تمّ تدريبهم في الكلية عملوا بمسؤولية عالية، وأنتجوا أفلامًا حصل بعضها على جوائز، إلاّ أنّ الثقافة الرسمية ومؤسّسة التعليم الموجودة في البلد بمعناها الواسع تبدو غير مهتمّة بما نقوم به من تدريب وتأهيل. لم يكن أمامي من خيارات سوى العودة مجدّدًا إلى المنفى الأوروبي، وترك البلد.

هذه التجربة المرّة أثارت عندي أسئلة عديدة وخيبة أمل عشتها بعد إغلاق المدرسة.
ثم بدأت أفكّر وأسأل نفسي: من أنا؟ عراقي يعيش في بريطانيا، أم بريطاني مولود في بلد اسمه العراق؟ لماذا لا أستطيع أن أنسى العراق رغم أنّي لم أعش فيه سوى ثلث عمري؟ لماذا لا أستطيع الاستقرار فأنا لا هنا ولا هناك، بل أعيش بين عالمين، أحدهما يجلب لي يوميًا ذكرى وحنينًا وقصصًا طافحة بالألم والكوابيس، والآخر يمنحني الحرية والعمل، ومنزلاً أُقيم فيه؟ إلى أي وطن أنتمي الآن: القديم أم الجديد؟ أي أرض أشعر بها كوطن؟ ما معنى الوطن: أهو المكان الذي تولد فيه، أم ذاك الذي تشعر فيه بأمان وتعيش فيه بكرامة؟

هذه الأسئلة وغيرها تُقلقني. كنتُ أودّ طرحها على أصدقائي الفنانين الـ7 في "مرايا الشتات"، وأُوثّق ردود أفعالهم وتجاربهم في العودة إلى العراق، وكيف ينظرون إلى وطنهم القديم الآن بعد أن عاشوا أكثر من 4 عقود خارجه.

(*) لكنك في الجزء الأول من الفيلم ركّزت على معاناة المنفى.
ـ في الفيلم الأول، "وسط حقول الذرة الغريبة" الذي حقّقته للتلفزيون البريطاني (القناة 4) عام 1990، حاولتُ توثيق حياة هؤلاء الفنانين الـ7 أنفسهم، وأعمالهم. تحدّثوا عن الظروف التي دفعتهم إلى مغادرة العراق، وعن نضالهم اليومي للبقاء ـ ماديًا وروحيًا ـ في المنفى، وعن الحرب وآثارها المدمِّرة على الشعب العراقي. أسلوب الفيلم تقريريّ وثائقيّ يطغى عليه الخطاب السياسي. هو يُشبه صرخة احتجاج وإدانة للنظام الديكتاتوري بمفاصله كلّها.

"مرايا الشتات" ذو أسلوب سردي، يروي قصصًا تتراوح بين الحاضر والماضي، والخاص والعام، والخارج والداخل، والذاكرة والنسيان، والوطن والمنفى، والهوية والانتماء، والغياب والحضور، إلخ. لكنّ السؤال الأهم الذي يتمحور حوله الفيلم: ماذا يعني أن تكون في المنفى، معظم حياتك؟ هذا يفتح بابًا للحوار مع الذين اضطروا إلى الابتعاد عن جذورهم الأصلية لأسباب خارجة عن إرادتهم، في حكايات وتجارب تمسّ روح المُشاهد ووجدانه.

في الفيلم الأول، كان لنا حلم العودة بعد زوال النظام. في الفيلم الثاني، تلاشى هذا الحلم، وبدأنا مرحلة توطين حياتنا في البلدان البعيدة التي نعيش فيها.

(*) هناك 25 عامًا تفصل بين الفيلمين. هل تحدّثنا عن هذه التجربة؟
ـ لا يوجد فيلم في الكون تمّ إنتاجه من دون مشاكل. أنا كفنان مستقلّ أنتمي إلى اتجاه "سينما المؤلّف"، أو "سينما فريق العمل بشخص واحد". هذا ما أعمله في معظم أفلامي. فأنا غالبًا ما أكون المنتج والمخرج والمصوّر في آن واحد. في "همس المدن" و"مرايا الشتات"، كنت المونتير أيضًا. لهذا، تحمل أفلامي بصمةً خاصة بي، أي أنها تُشبهني في تفرّدي كفنانٍ سينمائي. المشاكل التي تواجهني مادية غالبًا. صعوبة الحصول على تمويل لأفلامي الوثائقية ناتجةٌ من المنافسة الشديدة اليوم. تأقلمت مع هذا الوضع، فبدل انتظار أعوامٍ عديدة للحصول على تمويل، أبدأ مغامرة فيلمية بالاعتماد على نفسي، وبثقتي بإنجاز الفيلم الذي أريد، بيدي اليمنى كاميرتي وباليد اليسرى حقيبة السفر، أتنقل بين المدن، وأنام عند أصدقاء وآكل معهم بدلاً من الفنادق والمطاعم. في النهاية، يولد الفيلم بشكل غامض وواضح في آن واحد، ويجد طريقه إلى المُشاهدين.

هذا ما حدث مع فيلمي الأخير. أما المشاكل التي تدخل في إطار العملية الإبداعية، فلا يتّسع الوقت للحديث عنها الآن.

ما أريد قوله كسينمائي هو أنْ لا شيء يمكنه منعي من صنع فيلمي ما دام لديّ شغف السينما واهتمام بالعالم والناس المحيطين بي. ببساطة، أشعر أن السينما قدري ومعشوقتي التي لا تعرف الرحمة، كما قال المخرج والمنظّر آيزنشتاين.
دلالات
المساهمون