اللامرئي بلغة غسان حلواني: جمالية القسوة

19 نوفمبر 2018
التحريك: حساسية اللحظة (فيسبوك)
+ الخط -
البداية مشغولة بتقنية التحريك: شاب وصبيّة يمشيان إلى الأمام كأنهما واقفان في مكانهما. الأسود والأبيض أساسي، لكن زيّ الشابّة يحمل بقعة حمراء. سيبقى الشابان مجهولَين، وسيرهما على الأقدام بهذه الطريقة غامض، وملامح المكان أو الزمان غائبة. بداية مفتوحة، كالنهايات المعلّقة. التجوّل في خفايا القصّة ودهاليزها لن يكون سهلاً. البداية مفتوحة على الشابين، والنهاية معلّقة معهما، رغم وضوح مصيرهما: الاختفاء القسري، وهذا جزء من مصير، لأن المصير النهائيّ مجهول. قدرهما أن ينضمّا، في 16 سبتمبر/ أيلول 1985، إلى آلاف المخطوفين والمفقودين اللبنانيين في الحرب الأهلية (1975 ـ 1990). قدر والدتهما أوديت سالم أن تُرافق وداد حلواني في رحلة الألم والأمل ـ قبل وفاتها (16 مايو/ أيار 2009) بحادث سيارة قرب الخيمة المُقامة وسط بيروت (أهالي المفقودين والمخطوفين) ـ لكشف المآل الذي بلغه هؤلاء جميعهم، ولحلواني زوجٌ (عدنان حلواني) مفقود منذ 24 سبتمبر/ أيلول 1982، وفيلم "آخر صورة: هيي وقاطعة"، تحية إنسانية لسالم في رحيلها. 

لوداد وعدنان ابن يُدعى غسان، سيُنجز ـ عام 2018 ـ أحد أجمل الأفلام الوثائقية وأهمّها، والتي تتناول ملفًّا محكومًا عليه، مع النهاية المزعومة للحرب الأهلية، بالبقاء "طيّ الكتمان"، فالمتورطون اللبنانيون في الملف رافضون دائمون لوضع خاتمة له تُريح أهلاً أو من تبقى منهم أحياء، وتغلق موضوعًا يُعتبر الأخطر والأكثر إنسانية وقسوة في الذاكرة الجماعية. ورغم أن السلطات اللبنانية ستُقرّ ـ في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 ـ قانونًا يُتيح كشف حقائق الإخفاء والخطف ومحاسبة المسؤولين عنهما، إلا أن الملف بحدّ ذاته غير منتهٍ، فالعقوبات معطّلة بقانون عفو عام، وبحكم "أمر واقع" يتعلّق بانتقال مسؤولين كثيرين عن الملف نفسه من حكم المليشيات إلى حكم البلد.

مع غسان حلواني، في "طرس ـ صعود إلى اللامرئي" (2018) ـ المُشارك في الدورة الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" ـ يُستعاد سينمائيًا موضوعٍ يُفترض به أن يكون أحد المداخل الإنسانية والأخلاقية إلى المصالحة الحقيقية بين اللبنانيين. لكن حلواني مهموم فعليًا بمسألتين أساسيتين: سرد الحكاية بأسلوب مغاير للمتداول السينمائي اللبناني بخصوص الموضوع نفسه، واشتغال سينمائي مفتوح على اختبار أنواع بصرية في القول والبوح.

لقطات عديدة تعكس رغبة حلواني في تعميق الفعل السينمائيّ: حوار بينه وبين مُصوِّر صحافي لن يظهرا أبدًا أمام الكاميرا، وهما يتحدّثان عن صورة فوتوغرافية لن تكشفها الكاميرا أبدًا، تبدو كأنها المنطلق السرديّ للحكاية كلّها. صورة فوتوغرافية للمُصوِّر نفسه تؤرّخ لحظة قيام اثنين بخطف رجل: "الرجل المخطوف مختٍف. جثة الرجل المخطوف مختفية. الخاطفان الاثنان مختفيان، بحكم قانون العفو العام"، يقول حلواني. هذا دليلٌ كافٍ على إخفاء الجريمة.

اختيار غسان حلواني أحد جدران بيروت للحفر فيه عميقًا، بحثًا عن مخطوفين ولو عبر إعادة إظهار صُوَرهم المختفية وراء ملصقات دعائية مختلفة، يُعتبر أحد أجمل المشاهد وأهمها. الرسومات التي يصنعها والتنقيب في وجوه المخطوفين الموثّقة صُوَرهم الصغيرة في ملصق كبير، مسائل سينمائية بحتة تغوص في دهاليز البشاعة اللبنانية، المتمثّلة أيضًا بتقرير رسمي قديم يحرّض الأهالي على إعلان الوفاة لإنهاء المسألة. بشاعة متمثّلة بتغييب أماكن يُقال إنها مقابر جماعية، كمكبّ النورماندي (سوليدير) والكرنتينا (سيُشيِّد عليها ملهى ليلي في تسعينيات القرن الـ20) وغيرهما.

يستحيل اختزال "درس ـ صعود إلى اللامرئي". الكلمات أعجز من أن تروي شيئًا من جمالياته الفنية وقسوته الإنسانية والأخلاقية. صادم وحقيقي وعميق، يستعين بالتحريك لإضفاء شيء من حساسية الانفعال، ويترك للكاميرا ملاحقة المخرج نفسه في التنقيب عن تلك الصُور "المطمورة" تحت صُور وملصقات معلّقة على جدار، أو أثناء اشتغاله على طاولته، أو عند اختفائه عنها كي يتابع وقائع ويروي مقتطفات.

فيلم ـ شهادة، يختبر أفعال السينما في سرد وقائع مغيّبة في بلدٍ منذور لخراب دائم.
المساهمون