"غود مورنينغ" لبهيج حجيج: لحظات إنسانية شفّافة

19 أكتوبر 2018
من اليمين: شاهين ويمين وطوق وحجيج (فيسبوك)
+ الخط -
عجوزان في الثمانين من العمر يمضيان صباحاتهما اليومية في مقهى يُطلّ على تقاطع أزقّة صغيرة في مدينة يُهدم قديمها لتشييد جديد يبقى فارغًا. يأتيان في وقتٍ محدّد. يجلبان معهما صحفًا بيروتية وعربية، بعضها متوقّف عن الصدور الورقيّ منذ فترة. يحتسيان القهوة. "يعملان" في حلّ الكلمات المتقاطعة لتنشيط ذاكرة وعقل، وهذا عملٌ يقولان به كمهنة. صحافي شاب يعمل في جريدة إلكترونية يجلس في المقهى نفسه، في الوقت نفسه أيضًا. مغرومٌ هو بالصبيّة النادلة في المقهى. تُبادله غرامه بحبّ وانجذاب. أناسٌ عديدون يمرّون هناك ويعكسون أنماطاً ونماذج لبنانية وعربية مختلفة. 

هذا اختزالٌ لـ"غود مورنينغ" (2018)، الروائي الطويل الثالث للّبناني بهيج حجيج، بعد "زنّار النار" (2004) و"شتّي يا دني" (2010). عرضٌ لبناني أول مساء 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 بعد أسبوع واحد على عرضه الصحافي، تمهيدًا لإطلاق عروضه التجارية اللبنانية في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. القصّة للروائي اللبناني رشيد الضعيف، الذي له "المستبدّ" (1983)، الرواية المُقتَبَس عنها "زنّار النار". البطولة لغبريال يمين وعادل شاهين (الذي يغادر الحياة بعد وقتٍ قصير على تحقيق الفيلم) في الدورين الأساسيين، إلى رودريغ سليمان (الصحافي الشاب) ومايا داغر (نادلة المقهى).

لن تخرج الكاميرا (تصوير ميلاد طوق) من المقهى. الخارج يأتي إلى الداخل عبر عيون العجوزين، أو عبر إطلالة العدسة. الخارج يأتي أيضًا عبر شاشة التلفزيون التي تنقل انفجارات واعتداءات إرهابية في لبنان وأوروبا. الخارج حاضرٌ بقوّة في الكلمات المتقاطعة، والذكريات المتناثرة في حكايات العجوزين، والأحاديث المتفرّقة للعابرين. الخارج ظاهرٌ للداخل في أفرادٍ يمرّون في الأزقّة فيتابع العجوزان حركاتهم وكيفية تصرّفاتهم. كأن الخارج داخلٌ، فهو مُقيمٌ في زوايا ذاكرة واختبارات تضع العجوزين أمام تحدٍّ حياتيّ أخير: انتظار الموت. لكنهما لن ينتظرانه بل يجلسان بصمتٍ لن يخلخله حديث من هنا، أو نكتة من هناك، أو عارض صحّي من هنالك. كأنهما، بجلوسهما، يستعيدان العالم ويفكّكانه بصمت وهدوء، ويودّعان الأشياء الجميلة المنتهية، وينفران من جديد غير متوافق وأمزجتهما، وينتظران ما لن يعرفه أحدٌ، وهذا جانبٌ بديعٌ في سلاسة السرد الحكائيّ.

التفاصيل التي تُقال منبثقة من يوميات عادية. استعادة ذكريات لن تحمل أي جديد يُذكر في أسلوب التعبير عنها. الحركات متشابهة تأكيدًا على روتين ثابت يُرافق شيخوخة متأتية من صخب حياة واختبارات. إلقاء نكات لن يلقى صدىً إيجابياً عند أحد إلاّ نادرًا، كصبيّتين تأتيان ذات مرة فتضحكان كثيرًا، لكنها تلك المرة ستكون نهاية الأشياء أيضًا. ورغم أن أحدًا لن يتفاعل مع نكاته، ورغم أن صديقه الطبيب (يمين) يحاول منعه من تكرار ذلك لأن أحدًا غير متفاعل بل يشعر بضيقٍ فيغادر سريعًا، يُثابر الجنرال (شاهين) على إلقائها فهو يعترف أن حياته قاسية وها هو يريد الآن أن يضحك.

نصٌّ متواضع يسرد حكاياتٍ تعكس شيئًا من اختلاف الأزمنة، ومناخٍ درامي هادئ رغم صخب الوجع الدفين والمبطّن، وأداء يكشف غليان الألم الصامت الذي يُصيب العجوزين. هكذا تلتقط الكاميرا لحظات إنسانية شفّافة عن عمر ينتهي، وعن حياة تنتهي، وعن حقبات تنتهي، وعن جمالٍ يذوي.
المساهمون