"ذا بوست": استدعاء التاريخ لهجاء دونالد ترامب

24 يناير 2018
ستيفن سبيلبرغ وتوم هانكس أثناء تصوير الفيلم (فيسبوك)
+ الخط -
للوهلة الأولى قد يبدو غريباً أن يقف مخرج مثل ستيفن سبيلبرغ وراء فيلم The Post. فالدراما السياسية ذات البعد التاريخي والتي تدور حول الصحافيين وصراعهم مع السلطة والبيت الأبيض في مطلع السبعينيات من أجل كشف الحقيقة المخفية حول حرب "فيتنام"، لم ترد مسبقاً في التاريخ السينمائي الطويل الذي يحمله سبيلبرغ. بل إنه حين قدم فيلماً يدور في البيت الأبيض كان احتفاءً بسيرة أبراهام لينكولن في العمل الذي يحمل عنوان "لينكولن" (2012).
لكن مع مشاهدة The Post، يمكن التعامل مع الفيلم ضمن سياق آخر يجمعه مع "لينكولن" نفسه، وأفلام أخرى لسبيلبرغ، سياق مرتبط باللحظة التاريخية في 2017، ورؤية المخرج الكبير لما يجب أن تكون عليه الولايات المتحدة، و"حربه" الشخصية من أجل إبقاء "الأمة الأميركية" كما يراها.

يبدأ الفيلم مع المراسل العسكري دانيال إلسبرغ داخل حرب فيتنام عام 1966، الذي يرى أن الأمور في الميدان سيئة جداً وأن لا جدوى من كل هذه الحرب. ينقل إلسبرغ وجهة نظره لوزير الدفاع والرئيس الأميركي على الطائرة، ولكنه يفاجأ بأن الإدارة الأميركية تتبنى خطاباً إعلامياُ كاذباً عن التقدم الذي تحرزه القوات في فيتنام. ويستطيع المراسل أن يحصل على وثائق سرية تؤكد تورط 4 أنظمة رئاسية سابقة في تضليل الشعب على مدى سنوات طويلة.
بعد تلك المقدمة ينتقل الفيلم لكواليس صحيفة "واشنطن بوست"، والمرحلة الحرجة التي تمر بها رئيستها كاي غراهام ورئيس تحريرها بن برادلي بسبب الأوضاع الاقتصادية والاضطرار لطرح أسهم الصحيفة في اكتتابٍ عام. ومع هذا الوضع السيئ تقرر غراهام بصحبة برادلي نشر الوثائق السرية التي حصل عليها إلسبرغ، رغم احتمال تعرضهما للمساءلة والمحاكمة في عصر الرئيس ريتشارد نيكسون، ولكنهما يخوضان "حرباً" أخرى من أجل "حرية الصحافة".

"الحرية" هي الكلمة المفتاحية لفهم دوافع سبيلبرغ، فنحن في لحظة زمنية يقوم فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمهاجمة وسائل الإعلام بشكل دائم. يتهمها بالتحيز ونشر الأخبار الكاذبة وتنفيذ الأجندات. ورغم كل الانتصارات التي حققتها الصحافة الأميركية عبر السنوات يحاول ترامب ــ تماماً كما فعل نيكسون ــ تقييد حرية النشر وحرية الوصول إلى المعلومات. ومن هنا تحديداً تمكن مشاهدة The Post في سياق أكثر معاصرة، لمخرج يرى أن ترامب يمثل كل ما هو عكس تصوراته الشخصية عن الولايات المتحدة، والتي قدمها دوماً في أفلامه كأمة حرة وديمقراطية، بعيداً عن التقييم الموضوعي لهذا التصور وغرقه في سقطات لبروبغندا كلاسيكية مستهلكة.

على المستوى الفني، قد لا يكون العمل من أفضل أفلام سبيلبرغ عموماً، ولكنه يتحرك بشكل آمن وببناء تقليدي وكلاسيكي كعادة الرجل في السنوات الأخيرة، وهو ربما ما جعله يخرج من ترشيحات الأوسكار، بترشيحين فقط، عن أفضل فيلم وأفضل ممثلة لميريل ستريب.
ينقسم العمل بشكل واضح إلى جزأين: في النصف الأول من الأحداث لا يجيد سبيلبرغ الدمج بين المحورين اللذين يحاول ضمهما معاً: "حرب الصحافة من أجل كشف حقائق فيتنام" و"محاولة كاي غراهام الحفاظ على صحيفة واشنطن بوست". فقصة غراهام وأزمتها وعائلتها واجتماعات الصحيفة من أجل طرح الأسهم للاكتتاب، كلها تبدو فائضة للغاية ويمكن حذفها من دون تأثير حقيقي ومحوري على الأحداث، خصوصاً أن سبيلبرغ بدا منجذباً جداً في هذا الجزء لفكرة الجمع بين ميريل ستريب وتوم هانكس في فيلم واحد، وظهورهما معاً على الشاشة في مشاهد حوارية طويلة. ورغم جودة أدائهما (كالمتوقع)، والجاذبية التي يحملها حضورهما سوياً للمرة الأولى، إلا أن ذلك لم يكن كافياً للحفاظ على إيقاع "شيق" للأحداث طوال الساعة الأولى.

مع تقدم الأحداث باتجاه النصف الثاني، وإخلاص الفيلم أكثر لـ"قضية الصحافة" و"حرب فيتنام" و"الصراع مع السلطة"، يتحسن العمل تلقائياً: يرتفع الإيقاع ومعه قوة الأداء التمثيلي، وتتحول المشاهد لمباريات تمثيلية لأن الشخصيات نفسها تحمل وجهات نظر حاضرة طيلة الفيلم، دون صواب مطلق أو خطأ مطلق. فلا يمكن الجزم مثلاً إن كان الأصح الرضوخ لقرار السلطة السياسية والرئيس نيكسون وعدم نشر الوثائق كما فعلت الصحف الأخرى، أم يجب أن يكون المحرك هو الدافع المبدئي والأخلاقي عن حرية الصحافة وإتاحة المعلومات؟ يكون الفيلم مثيراً وجاذباً جداً في تلك المرحلة، يهتم المشاهد فعلاً بمصائر الشخصيات وبالأبعاد التاريخية لما يحدث. وحين يقارب الشريط نهايته وسط لحظة انتصار منتظرة، وتقديم ذكي في النهاية لدور الصحيفة ذاتها في تفجير "فضيحة ووترغيت"، تظهر أمنية سبيلبرغ وربما نبوءته للحاضر. الحاضر الذي تستطيع فيه الصحافة الأميركية أن تقاوم من أجل حريتها وتخوض حربها للنهاية، حتى لو كان الطرف الآخر هو الرجل الأول في الولايات المتحدة.



دلالات
المساهمون