في مندرجات الدراسة التي نشرها "البنك الدولي" الخميس بعنوان "هل الركود العالمي وشيك؟"، 3 سيناريوهات محتملة بشأن التطورات المرتقبة لنشاط الاقتصاد العالمي حتى عام 2024، والذي تغلب عليه توقعات الركود معززة بالمؤشرات المسجلة هذه السنة.
انطلقت الدراسة من الدروس المستفادة من نوبات الكساد العالمي السابقة لتحليل تطور النشاط الاقتصادي في الآونة الأخيرة، مشيرة إلى أن تباطؤا كالذي يشهده العالم حاليا يتطلب، عادة، انتهاج سياسات لمناهضة التقلبات الدورية من أجل مساندة النشاط الاقتصادي.
لكنها تحذر من أن خطر التضخم ومحدودية الإنفاق في إطار الموازنات العامة يحفزان واضعي السياسات في كثيرٍ من البلدان على سحب الدعم الذي تتيحه السياسات رغم التباطؤ الحاد للاقتصاد العالمي.
وبحسب الدراسة، تُبيّن تجربة السبعينيات واستجابات السياسات في مواجهة الكساد العالمي عام 1975، وفترة الركود التضخمي التي أعقبته، والكساد العالمي سنة 1982، خطر السماح باستمرار ارتفاع معدلات التضخم لوقت طويل في ظل ضعف النمو.
فقد تزامن الكساد العالمي في 1982 مع ثاني أدنى معدل للنمو في الاقتصادات النامية خلال العقود الخمسة الماضية، لا يسبقه في هذا الترتيب سوى المعدل في 2020. وأفرز هذا الكساد أكثر من 40 أزمة مديونية، وأعقبه عقد من تراجع النمو في كثيرٍ من الاقتصادات النامية.
القائم بأعمال نائب رئيس البنك الدولي لشؤون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات آيهان كوسي يرجح "أن يكون تشديد السياسات النقدية والمالية العامة في الآونة الأخيرة مفيدا في الحد من التضخم. ولكن لأنها على درجة عالية من التزامن في مختلف البلدان، فإنها قد تفاقم بعضها بعضا في تقييد الأوضاع المالية وزيادة تباطؤ النمو العالمي".
وينبّه إلى ضرورة أن يكون واضعو السياسات في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية على أهبّة الاستعداد لإدارة التداعيات المحتملة للتشديد المتزامن للسياسات على مستوى العالم.
لكن ما هي هذه السيناريوهات الثلاثة وما تفاصيلها؟
1 - السيناريو الأساسي
في السيناريو الأساسي، يفترض البنك أن تهدأ الرياح المعاكسة من أسواق السلع الأساسية واضطرابات سلسلة التوريد. وفي ما يتعلق بالسياسة النقدية، من المفترض أن ترتفع أسعار الفائدة العالمية قصيرة الأجل،، والتي تُقاس بمتوسطات الناتج المحلي الإجمالي المرجحة للأسعار الوطنية، من 1.6% عام 2021 إلى ذروة 3.8% عام 2023.
ويعكس هذا توقعات السوق لمزيد من التشديد في العديد من الاقتصادات الكبرى. على سبيل المثال، من المقرر أن ترتفع معدلات الفائدة الرئيسية إلى 3.7% في الولايات المتحدة بحلول الربع الأول من عام 2023.
وفي هذا السيناريو، يتباطأ النمو العالمي من 2.9% عام 2022 إلى 2.4% عام 2023، قبل أن يتعافى إلى 3% سنة 2024.
وسيشهد الاقتصاد العالمي تباطؤا في العام المقبل مع اقتراب النمو من حيث نصيب الفرد من مستواه في فترات الانكماش بين عامي 1998 و2012. ومن المتوقع أن يهدأ نمو التجارة العالمية مع ضعف الطلب على نطاق واسع سنة 2023، قبل أن يتسارع في 2024.
كما سيتباطأ نمو الاقتصادات المتقدمة في 2022 و2023 قبل أن يتعافى إلى حد ما عام 2024. وعلى العكس من ذلك، سيتسارع بثبات النمو في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية مع تلاشي الرياح المعاكسة العالمية، ما يسمح باستمرار التعافي في مرحلة ما بعد كورونا.
وبعد أن بلغ ذروة 7.7% عام 2022، ظل التضخم العالمي الرئيسي لمؤشر أسعار المستهلكين في السيناريو الأساسي مرتفعا بالنسبة إلى "هدف" التضخم حتى عام 2023 والبالغ 4.6%.
ومع ذلك، فإن التوقعات لعام 2024، عند 3.2%، تتماشى مع النهج التدريجي للأهداف، والتي تبلغ حوالي 2.5% على المستوى العالمي من حيث الناتج المحلي الإجمالي المرجح.
كما من المتوقع أن ينخفض التضخم في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بسرعة من 9.4% عام 2022 إلى 4.5% عام 2024، لكنه يظل أعلى من هدفه الإجمالي البالغ حوالي 3.5%. وسيكون أكثر تباطؤا انخفاض تضخم مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي، والذي يستثني عنصر الطاقة المتقلبة.
ونظرا إلى توقعات التضخم هذه والمسار المتوقع للسياسة النقدية، تظل أسعار الفائدة قصيرة الأجل سلبية، أو قريبة من الصفر، بالقيمة الحقيقية. وهذا هو أحد المؤشرات على "اعتدال" موقف السياسة النقدية المتضمن في التوقعات الحالية لسعر الفائدة.
وفي الواقع، يشير السيناريو الأساسي إلى أن الدرجة المتوقعة من تشديد السياسة النقدية العالمية لن تكون كافية لإعادة التضخم الأساسي العالمي إلى معدل متوافق مع أهداف البنوك المركزية المركزي خلال الأفق الزمني المعتاد لمدة عامين تقريبا.
وهذا ما يسلط الضوء على مخاطر الانجراف التصاعدي في توقعات التضخم، ما قد يعقد عودة التضخم إلى هدفه.
ويتضح هذا الخطر بسهولة عند مراجعة إجراءات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خلال فترات التشديد السابقة. وعلى وجه التحديد، لا يزال المسار الضمني في السوق لأسعار الفائدة خلال فترة 2022-2023 أقل بكثير من الاتجاه الأخير لتقارير التضخم الأساسي، على عكس التجربة التاريخية منذ أواخر السبعينيات.
كذلك تشير تجربة السبعينيات إلى أن التأخير في تنفيذ الزيادات الضرورية في معدلات الفائدة حتى أواخر العقد جعل الزيادة المطلوبة أكبر بكثير في نهاية المطاف.
2 - سيناريو الانكماش الحاد
إذا كانت الضغوط التضخمية ستظل أكثر ثباتا أو إذا كانت توقعات التضخم ستنجرف إلى الأعلى، فستكون هناك حاجة إلى تشديد السياسة أكثر من المتوقع لإعادة التضخم إلى الهدف.
تاريخيا، في بداية فترات تشديد السياسة، كانت توقعات أسعار الفائدة المستندة إلى السوق في الولايات المتحدة قد قللت من تقدير الزيادات اللاحقة في الأسعار بمتوسط 85 نقطة أساس.
ويؤدي تحليل الآثار المترتبة على الانجراف التصاعدي في توقعات التضخم العالمية إلى تشديد إضافي للسياسة النقدية المتزامنة في سيناريو الانكماش الحاد.
ففي هذا السيناريو، من المفترض أن ترتفع توقعات التضخم في الاقتصادات الرئيسية بانحراف معياري واحد خلال الفصول العديدة القادمة، ما يزيد من استمرار صدمة التضخم العالمية.
واستجابة لذلك، يُفترض أن ترفع البنوك المركزية الرئيسية في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية معدلات فائدتها الأساسية بمقدار 100 نقطة أساس فوق الافتراضات الأساسية بين الربع الأخير من 2022 والربع الأول من 2023، وتختار الحفاظ على هذا الفارق حتى عام 2024.
وستؤدي هذه الزيادات الإضافية في أسعار الفائدة إلى ارتفاع معدل الفائدة الحقيقي العالمي قصير الأجل من -4.7% عام 2022 إلى متوسط 0.6% خلال الفترة 2023-2024، ما يعني تشديدا متواضعا للأوضاع المالية العالمية بالنسبة للسيناريو الأساسي.
وفي ظل هذا السيناريو، سيظل الاقتصاد العالمي يفلت من الركود. لكن مع ذلك، سيشهد انكماشا عالميا (من حيث نصيب الفرد) كما حصل في انكماش عام 2001 وأسوأ مما حدث في عامي 1998 و2012.
ويتعافى النشاط العالمي في هذا السيناريو عام 2024، لكن معدل نمو إجمالي الناتج المحلي المتوقع بنسبة 2.7% يظل أقل بمقدار 0.3 نقطة مئوية عن المعدل الأساسي.
وفي هذا السيناريو، يتعمق التباطؤ في نمو التجارة العالمية. وستتجنب الاقتصادات المتقدمة بشكل عام انكماش الإنتاج السنوي عام 2023، مع نمو بنسبة 0.5%.
لكن التشديد الإضافي للسياسة النقدية يتسبب في ركود تقني، يُعرَّف بأنه رُبعان متتاليان من النمو السلبي، في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، في عام 2023.
وستكون تأثيرات النمو المقدرة بالنموذج لبلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية مقارنة بالسيناريو الأساسي أكبر قليلا من تلك الخاصة بالاقتصادات المتقدمة، ما يعكس التأثير الإضافي للتداعيات المالية غير المباشرة من التشديد النقدي في الولايات المتحدة.
ومن المتوقع أن يتباطأ النشاط بشكل أكثر حدة في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية المعرضة بشدة للولايات المتحدة عبر القنوات التجارية والمالية، وكذلك بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية المصدرة للسلع والمعرضة عبر قناة أسعار السلع الأساسية.
ويسجل التضخم العام العالمي انخفاضا حادا في عام 2023 مقارنة بتوقعات "السيناريو الأساسي"، لكن هذا يرجع فقط إلى انخفاض أسرع في أسعار الطاقة العالمية، بما يتفق مع انخفاض إجمالي الطلب العالمي. وبينما يواصل التضخم العام مساره التنازلي في عام 2024، فإنه يفعل ذلك بوتيرة أبطأ.
ومن ناحية أخرى، فإن انخفاض التضخم الأساسي لم يتغير على نطاق واسع بالنسبة للسيناريو الأساسي، حيث إن الضغط التصاعدي من ارتفاع توقعات التضخم تقريبا يوازن التأثير الخافت لتوسيع فجوات الإنتاج.
ويوفر هذا السيناريو إمكانية ألا تكون الزيادة الإضافية في أسعار الفائدة على مستوى العالم كافية لإعادة معدلات التضخم إلى الهدف في الوقت المناسب، إذا بدأت توقعات التضخم في الانجراف إلى الأعلى.
3 - سيناريو الركود العالمي
إن احتمال حدوث تحولات مفاجئة في سياسات الاقتصادات الكبرى يولّد ضغوطا مالية عالمية حادة واضحة في السجل التاريخي لحالات الركود العالمي السابقة. وجرت دراسة هذه النتيجة هنا في ظل سيناريو الركود العالمي.
يفترض هذا السيناريو أن يلاحظ صانعو سياسات الاقتصادات الكبرى زيادة توقعات التضخم أكبر مما هو مفترض في "سيناريو الانكماش الحاد"، فيستجيبون من خلال تنفيذ سياسة تشديد متزامنة أكبر من المتوقع في نهاية العام، ويرفعون معدلات الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس فوق خط الأساس خلال الفترة بين الربع الأول من 2023 والربع الأخير من 2024.
ونتيجة لذلك، سترتفع المعدلات العالمية الحقيقية قصيرة الأجل 560 نقطة أساس بين عامَي 2021 و2023، وهي زيادة تُمكن مقارنتها تقريبا بارتفاع 440 نقطة أساس الذي حدث بين عامَي 1980 و1982.
وعند 2.8%، سيكون المعدل الحقيقي لعام 2023 في سيناريو الركود العالمي عند أعلى مستوى له منذ عام 1998.
ويُفترض أن تؤدي هذه الخطوة في السياسة النقدية إلى إعادة تسعير حادة للمخاطر في الأسواق المالية العالمية، بينما تؤدي إلى تفاقم نقاط ضعف الاقتصاد الكلي المتزايدة بالفعل.
إن الحاجة المتزايدة إلى التركيز على الحد من التضخم تحد من قدرة البنوك المركزية على توفير الإغاثة للأسواق المالية المتوترة، رغم أنها لا تزال قادرة على توفير تسهيل ائتماني مستهدف لتخفيف النقص الحاد في السيولة في أسواق التمويل الرئيسية، كمقرضي الملاذ الأخير.
كما من المفترض أن تواجه السياسة المالية قيودا مماثلة، ما يمنع الحكومات من تنفيذ تدابير دعم واسعة النطاق.
أما الآثار الاقتصادية الكلية المترتبة على التدهور الحاد للأوضاع المالية العالمية، فضلا عن ضعف الثقة، فمن شأنها أن تفاقم الرياح المعاكسة الناجمة عن تشديد السياسة النقدية المتزامن عالميا.
ونتيجة لذلك، قد يعني هذا السيناريو أن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينخفض بمقدار 1.9 نقطة مئوية في عام 2023 ونقطة مئوية واحدة في عام 2024، بالنسبة إلى خط الأساس.
وفي عام 2023، سيشهد الاقتصاد العالمي ركودا مشابها في الحجم لما حدث في عام 1982، مع تباطؤ النمو إلى 0.5%. ومن حيث نمو نصيب الفرد، فإن انكماشاً بنسبة 0.4% سيكون متماشيا مع ركود عام 1991، لكنه سيكون أكثر اعتدالا من أزمة عام 1982 لأن عدد السكان نما بشكل أسرع سنة 1982.
وسيكون تطور الناتج العالمي في ظل هذا السيناريو ضمن التجربة التاريخية للركود العالمي على مدى العقود الخمسة الماضية.
وستتضرر التجارة العالمية بشدة كما حدث في فترات الركود العالمي السابقة، مع تراجع نمو التجارة من 5.4% عام 2022 إلى 1.2% سنة 2023.
وعلى نحو أدق، فإن التباطؤ البالغ 4.2 نقاط مئوية (من 2022 إلى 2023) تُمكن مقارنته بالانخفاض الحاد البالغ 4.9 نقاط مئوية في نمو التجارة العالمية الذي حدث عام 1982.
وفي حين أن الافتقار إلى دعم السياسات سيكون في تناقض حاد مع فترات الركود العالمي لعامَي 2009 و2020، إلا أنه سيكون مشابها لاستجابات السياسات التي ساهمت في الركود العالمي سنة 1982.
وسيكون مسار الناتج (نصيب الفرد) في كل من الاقتصادات المتقدمة وبلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية ضمن نطاق فترات الركود العالمي السابقة.
ويعكس الانتعاش الضعيف عام 2024 إلى حد كبير غياب دعم السياسات لمواجهة التقلبات الدورية في الاقتصادات الكبرى وفي بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية، وعلى وجه التحديد، التداعيات السلبية من الاقتصادات المتقدمة ومساحة السياسة المحدودة.
ويحذر البنك الدولي من أن التشديد الحاد في الظروف المالية العالمية من شأنه أن يهدد بشكل خاص بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية التي تعاني من عجز كبير في الحساب الجاري وتعتمد بشكل كبير على تدفقات رأس المال الأجنبي، وكذلك تلك التي لديها مستويات عالية من الديون الحكومية أو الخاصة قصيرة الأجل أو المقومة بالعملات الأجنبية.
وبسبب التباطؤ الحاد في الطلب الخارجي، ستواجه بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية المصدرة للسلع الأساسية رياحا معاكسة إضافية، تتمثل في انهيار أسعار السلع الأساسية.
ونتيجة للركود العالمي، ينخفض مؤشر أسعار المستهلكين الرئيسي العالمي بسرعة أكبر إلى 3% عام 2023، قبل أن يرتفع إلى 3.5% سنة 2024.
ويعكس جزء كبير من الانخفاض الأولي في التضخم الرئيسي ديناميكيات أسعار الطاقة، التي من المتوقع أن تتفاعل بسرعة مع تدهور الطلب الكلي العالمي على نطاق واسع.
وينخفض معدل التضخم الأساسي إلى 2.9% عام 2024، أي أقرب بكثير إلى الهدف مما كان عليه في السيناريوهات السابقة، بفضل فجوات الإنتاج الأوسع.
ويوضح سيناريو الركود العالمي أهمية الوضوح والاتساق في صياغة السياسات النقدية وتوصيلها إلى أهدافها، في حين أن الشفافية في تنفيذ السياسة تقلل من مخاطر الاضطرابات المفاجئة في السوق والضغوط المالية، وتزيد فرص توافق التوقعات العامة مع أهداف السياسة المعلنة.
وفي حال اشتدت بقوة الضغوط المالية العالمية، فمن المحتمل أن تتأثر اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بشدة. وهذا الخطر يجعل من الضروري صياغة مجموعة شاملة من السياسات الضرورية.