أن تأتي الضغوط على بلد من قوى خارجية مفضوحة، فهذا أمر ربما يجد تبريراته في لعبة الأمم، لكن أن يقوّض السياسيون في لبنان الثقة الداخلية والخارجية في بلدهم بالحديث عن انهيار اقتصادي وإفلاس مالي في وقت قريب، من أجل تحقيق أغراض سياسية، فهذا هو الأمر المستهجن.
مناوشات "التفليس" كانت استبقت مؤتمر المانحين "سيدر1" الذي حصد منه لبنان، قبل الانتخابات النيابية في مايو/أيار، وعودا بقروض وهبات تجاوزت 11 مليار دولار، حيث اعتبر رئيس الجمهورية، ميشال عون، في مارس/آذار، أن "البلد مفلس".
ثم شهد البلد موجة "تفريخ" لخبراء اقتصاديين من هنا وهناك يُنذرون البلاد والعباد بانهيار اقتصادي كبير، وكل ذلك على وقع خلافات حادة سابقة حول قانون الانتخابات، ثم انقسامات لا تزال مستمرة حول تقاسم الحقائب والمقاعد الوزارية في حكومة كُلّف بتشكيلها رئيس حكومة تصريف الأعمال، سعد الحريري.
اقــرأ أيضاً
غبريل يعتبر أن "ثمة ضغطاً سياسياً من أجل تسريع تشكيل الحكومة، مع أن بوادر التشكيل غير موجودة"، مع إقراره بأن الوضع الاقتصادي "ليس جيداً"، إنما "الليرة مستقرة، ولا يشهد القطاع المصرفي هروباً للودائع إلى خارج البلد، كما لا تحصل تحويلات من الليرة إلى الدولار، فضلاً عن أن الطلب على العملة الخضراء لا يزال عادياً".
مؤشرات متراجعة
لكن، مع ذلك، يلاحظ غبريل أن ثمة مؤشرات شهدت بعض التراجع أخيراً، لا سيما، مثلاً، بالنسبة لميزان المدفوعات الذي سجّل عجزاً قدره 548.9 مليون دولار في يوليو/تموز الماضي، مقارنة بعجزٍ 638.5 مليون دولار في يونيو/حزيران، وفائض بلغ 1.203.5 مليار دولار في مايو/أيار.
في السياق، ينعكس تعثر تشكيل الحكومة ضعفاً في أداء الأسواق المالية بسبب تآكل الثقة، حيث سجل "مؤشر بلوم للأسهم" (BSI) الأسبوع الماضي، انخفاضاً نسبته 1.37%، وكذلك "مؤشر بلوم للسندات المالية" (BBI) الذي تراجع 1.39%.
إغراء بالفوائد
البنوك تحاول من جهتها المحافظة على سيولتها من العملة الأجنبية، ولذلك تسعى، في الآونة الأخيرة، إلى إغراء المودعين بفوائد عالية، شرط أن يُجمّد أصحاب الودائع أموالهم لخمس سنوات وأكثر، بآلية مفادها أن وديعة الدولار يتم تحويلها إلى وديعة بالليرة اللبنانية بفائدة 15%، وهي آلية لوحظ أن "بنك عوده" كان أول المبادرين إليها، وسط منافسة بين المصارف لاستقطاب العملة الصعبة.
ويبدو منطقياً أن يكون "عوده" في طليعة المبادرين لجذب الرساميل، باعتبار أن أزمة الليرة التركية انعكست عليه، باعتبار أنه يمتلك فروعاً تشكل أعمالها 30% تقريباً من تسليفاته، ونحو 20% من ودائعه، وتدرّ عليه حوالي 15% من مجموع أرباحه.
مكامن قوّة
الوضع المالي الضاغط يلعب دوراً في تقدير حجم التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة، في وقت يتسارع فيه تفاقم عجز الموازنة والخزينة نتيجة زيادات ما تُعرف بـ"سلسلة الرتب والرواتب"، والتي كانت سبباً رئيسياً، بحسب غبريل، في زيادة العجز في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، حيث أصبحت هذه السلسلة مع الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد أكبر بند في جدول النفقات العامة.
وفي مقابل اهتزاز الثقة في الاقتصاد اللبناني، يمتلك "مصرف لبنان" 44 مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية، سيستخدمه للدفاع عن الاستقرار المالي والنقدي. لكن غبريل يعتقد أنه بعد أشهر، ما لم يشهد البلد انفراجاً سياسياً، من الممكن أن تلجأ الناس، إذا انهارت الثقة، إلى تحويل ودائعها من الليرة إلى الدولار، ولهذا كلفة ستُلزم المصرف المركزي باستقطاب دولارات لتلبية حاجة السوق، ولذلك تحسّب المصرف باتخاذ تدابير احترازية تشجّع المصارف على وضع سيولة الدولار ودائع لديه كي يزيد احتياطاته.
وتتضمّن ودائع المصارف لدى "المركزي"، الاحتياطي الإلزامي وشهادات الإيداع الصادرة بالليرة والدولار والودائع المباشرة، وقد بلغت 120 مليار دولار، وهي تشكل عملياً العامل الأساسي الذي يُبقي الوضع مستقراً، حتى لو أنتجت كلفة الفوائد المرتفعة انكماشاً تبقى كلفته أقل بكثير من اهتزاز وضع العملة الوطنية.
ثم شهد البلد موجة "تفريخ" لخبراء اقتصاديين من هنا وهناك يُنذرون البلاد والعباد بانهيار اقتصادي كبير، وكل ذلك على وقع خلافات حادة سابقة حول قانون الانتخابات، ثم انقسامات لا تزال مستمرة حول تقاسم الحقائب والمقاعد الوزارية في حكومة كُلّف بتشكيلها رئيس حكومة تصريف الأعمال، سعد الحريري.
كبير الاقتصاديين ورئيس مديرية البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة "بنك بيبلوس"، نسيب غبريل، قال لـ"العربي الجديد": "نشهد كثيراً من التهويل والتخويف، ويذكرني المنحى الحاصل الآن بما حدث عام 2015 إبّان أزمة النفايات الشهيرة، حين اكتشفنا كثيراً من الخبراء، وكل واحد منهم كان يقدّم حلاً لهذه الأزمة التي لا تزال شائكة حتى الآن".
وقد برزت، في الأشهر الأخيرة، أسماء عديدة ممّن يسمّون أنفسهم "خبراء اقتصاد" و"خبراء استراتيجيين" تعجّ بهم منابر الإعلام بكافة أنواعه، يعرضون نظريّات وحلولاً، في ظل ما يرونه انهياراً لليرة اللبنانية بعد أشهر، على نسق سيناريو اليونان سابقاً، أو تركيا حالياً. عن هؤلاء يقول غبريل: "إنهم لا يقرأون المؤشرات".
وقد برزت، في الأشهر الأخيرة، أسماء عديدة ممّن يسمّون أنفسهم "خبراء اقتصاد" و"خبراء استراتيجيين" تعجّ بهم منابر الإعلام بكافة أنواعه، يعرضون نظريّات وحلولاً، في ظل ما يرونه انهياراً لليرة اللبنانية بعد أشهر، على نسق سيناريو اليونان سابقاً، أو تركيا حالياً. عن هؤلاء يقول غبريل: "إنهم لا يقرأون المؤشرات".
مؤشرات متراجعة
لكن، مع ذلك، يلاحظ غبريل أن ثمة مؤشرات شهدت بعض التراجع أخيراً، لا سيما، مثلاً، بالنسبة لميزان المدفوعات الذي سجّل عجزاً قدره 548.9 مليون دولار في يوليو/تموز الماضي، مقارنة بعجزٍ 638.5 مليون دولار في يونيو/حزيران، وفائض بلغ 1.203.5 مليار دولار في مايو/أيار.
وتظهر بيانات "مصرف لبنان" المركزي، للأسبوع المنتهي في 5 يوليو/تموز الماضي، انخفاض الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية 471 مليار ليرة، تعادل 312 مليون دولار.
في المقابل، شهدت مؤشرات أخرى بعض التحسّن، ومنها، مثلاً، تسجيل مؤشر "بنك بيبلوس للطلب العقاري"، معدلاً شهرياً بلغ 43.7 نقطة في الفصل الثاني من العام الجاري، ما يشكل ارتفاعاً نسبته 31.8% عن مستوى 33.2 نقطة المسجلة في الفصل الأول، لكن بتراجع نسبته 16.3% عن نتيجة 52.3 نقطة المسجلة في الفصل الثاني من عام 2017، وسط مفاقمة للركود العقاري أنتجها وقف قروض الإسكان المدعومة من "مصرف لبنان".
تبدّد الثقة
لكن وإن كانت المؤشرات، لا سيما النقدية منها، تشهد استقراراً، إلا أن الحركة الاقتصادية عموماً تتأثر بعامل الثقة، بحسب غبريل، الذي يؤكد أن الثقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطوّرات السياسية التي حالت دون تشكيل حكومة بسبب الخلافات على الحصص والمغانم، بعدما كان أمل اللبنانيين أن تشهد الأوضاع انفراجاً بعد انتخابات نيابية كانوا يأملون أن تُنتج حكومة وحدة وطنية تنصرف إلى الأولويات المعيشية والحياتية المُلحّة.
في المقابل، شهدت مؤشرات أخرى بعض التحسّن، ومنها، مثلاً، تسجيل مؤشر "بنك بيبلوس للطلب العقاري"، معدلاً شهرياً بلغ 43.7 نقطة في الفصل الثاني من العام الجاري، ما يشكل ارتفاعاً نسبته 31.8% عن مستوى 33.2 نقطة المسجلة في الفصل الأول، لكن بتراجع نسبته 16.3% عن نتيجة 52.3 نقطة المسجلة في الفصل الثاني من عام 2017، وسط مفاقمة للركود العقاري أنتجها وقف قروض الإسكان المدعومة من "مصرف لبنان".
تبدّد الثقة
لكن وإن كانت المؤشرات، لا سيما النقدية منها، تشهد استقراراً، إلا أن الحركة الاقتصادية عموماً تتأثر بعامل الثقة، بحسب غبريل، الذي يؤكد أن الثقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطوّرات السياسية التي حالت دون تشكيل حكومة بسبب الخلافات على الحصص والمغانم، بعدما كان أمل اللبنانيين أن تشهد الأوضاع انفراجاً بعد انتخابات نيابية كانوا يأملون أن تُنتج حكومة وحدة وطنية تنصرف إلى الأولويات المعيشية والحياتية المُلحّة.
في السياق، ينعكس تعثر تشكيل الحكومة ضعفاً في أداء الأسواق المالية بسبب تآكل الثقة، حيث سجل "مؤشر بلوم للأسهم" (BSI) الأسبوع الماضي، انخفاضاً نسبته 1.37%، وكذلك "مؤشر بلوم للسندات المالية" (BBI) الذي تراجع 1.39%.
الأجواء المشحونة حالياً تُرخي بظلالها على المشاريع والمبادرات الخاصة، لأن الكل يتريّث ريثما تنجلي صورة الوضع السياسي وتتعزّز مجدداً ثقة هشّة يضغط عليها أيضاً التوتّر الإقليمي.
إغراء بالفوائد
البنوك تحاول من جهتها المحافظة على سيولتها من العملة الأجنبية، ولذلك تسعى، في الآونة الأخيرة، إلى إغراء المودعين بفوائد عالية، شرط أن يُجمّد أصحاب الودائع أموالهم لخمس سنوات وأكثر، بآلية مفادها أن وديعة الدولار يتم تحويلها إلى وديعة بالليرة اللبنانية بفائدة 15%، وهي آلية لوحظ أن "بنك عوده" كان أول المبادرين إليها، وسط منافسة بين المصارف لاستقطاب العملة الصعبة.
ويبدو منطقياً أن يكون "عوده" في طليعة المبادرين لجذب الرساميل، باعتبار أن أزمة الليرة التركية انعكست عليه، باعتبار أنه يمتلك فروعاً تشكل أعمالها 30% تقريباً من تسليفاته، ونحو 20% من ودائعه، وتدرّ عليه حوالي 15% من مجموع أرباحه.
مكامن قوّة
الوضع المالي الضاغط يلعب دوراً في تقدير حجم التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة، في وقت يتسارع فيه تفاقم عجز الموازنة والخزينة نتيجة زيادات ما تُعرف بـ"سلسلة الرتب والرواتب"، والتي كانت سبباً رئيسياً، بحسب غبريل، في زيادة العجز في الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، حيث أصبحت هذه السلسلة مع الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد أكبر بند في جدول النفقات العامة.
وفي مقابل اهتزاز الثقة في الاقتصاد اللبناني، يمتلك "مصرف لبنان" 44 مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية، سيستخدمه للدفاع عن الاستقرار المالي والنقدي. لكن غبريل يعتقد أنه بعد أشهر، ما لم يشهد البلد انفراجاً سياسياً، من الممكن أن تلجأ الناس، إذا انهارت الثقة، إلى تحويل ودائعها من الليرة إلى الدولار، ولهذا كلفة ستُلزم المصرف المركزي باستقطاب دولارات لتلبية حاجة السوق، ولذلك تحسّب المصرف باتخاذ تدابير احترازية تشجّع المصارف على وضع سيولة الدولار ودائع لديه كي يزيد احتياطاته.
وتتضمّن ودائع المصارف لدى "المركزي"، الاحتياطي الإلزامي وشهادات الإيداع الصادرة بالليرة والدولار والودائع المباشرة، وقد بلغت 120 مليار دولار، وهي تشكل عملياً العامل الأساسي الذي يُبقي الوضع مستقراً، حتى لو أنتجت كلفة الفوائد المرتفعة انكماشاً تبقى كلفته أقل بكثير من اهتزاز وضع العملة الوطنية.