وثائق باندورا وأموال لبنان المهرّبة

05 أكتوبر 2021
ولاية ساوث داكوتا الأميركية التي تأتي ضمن الملاذات الضريبية (Getty)
+ الخط -

من الأكيد أنّ الصحافة العالميّة ستحتاج إلى أيّام، وربما أسابيع، لتهضم وتحلّل كميّة المعلومات الضخمة التي خرجت إلى العلن، بتسريب وثائق باندورا.

نحو 12 مليون وثيقة كشفت الكثير من أسرار الشركات المسجّلة في جنّات ضريبيّة، والتي استعملها سياسيون وإعلاميون ومشاهير ورجال أعمال من جميع أنحاء العالم، لإخفاء أموالهم وممتلكاتهم وراء البحار، أو ربما إخفاء عمليّات وصفقات ماليّة عابرة.

في معظم الأحيان، كان الهدف من تسجيل هذه الشركات في الجنّات الضريبيّة التهرّب من ضرائب البلدان الأم، أو من ضرائب البلدان التي يمارس فيها أصحاب الشركات أنشطتهم الاستثماريّة والتجاريّة.

فالجنّات الضريبيّة تجمع في العادة ما بين سهولة ومرونة إجراءات فتح الشركات، وانخفاض أو ربما انعدام نسبة الضريبة المفروضة عليها، بالإضافة إلى سريّة مصرفيّة حازمة تحمي المعلومات الماليّة للشركات المستحدثة.

الجنّات الضريبيّة تجمع ما بين سهولة ومرونة إجراءات فتح الشركات، وانخفاض أو ربما انعدام نسبة الضريبة المفروضة، وسريّة مصرفيّة حازمة تحمي المعلومات الماليّة للشركات

كل هذه العوامل، تجعل الجنّة الضريبيّة مكانا مثاليا ليتجه إليه من يريد وضع ثروته بمنأى عن أي ضرائب، بل وحتّى بعيداً عن رقابة بلده الأم الضريبيّة.

في حالات أخرى، كان الهدف من التوجّه إلى الجنّات الضريبيّة إخفاء أموال ناتجة عن كسب غير مشروع، أو إخفاء صفقات خاضعة لعقوبات دوليّة.

فسهولة فتح الشركات والحسابات المصرفيّة في الجنّات الضريبيّة، والسريّة المصرفيّة المعتمدة فيها، كلّها تمثّل بيئات مفضّلة لمن يرغب بخلق "شركات واجهة"، أي شركات لا يُراد منها سوى إخفاء أصحابها الأساسيين والمستفيدين من عملياتها، وإجراء صفقات معيّنة تحت ستار هذه الشركات.  وفي العديد من الحالات، تمثّل هذه الشركات بالتحديد أداة جيّدة لغسل أموال أصحابها.

لكن في حالة لبنان بالتحديد، يبدو أن هذه الشركات ساهمت خلال السنوات الماضية بتحقيق هدف إضافي: تحييد أصحاب النفوذ المالي والسياسي من كلفة الانهيار، وتمكينهم من تهريب ثرواتهم إلى الخارج قبل أو خلال حصول أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة التي عرفها التاريخ.

وبذلك، تحوّلت هذه الشركات إلى أداة من أدوات توزيع الخسائر غير العادل، وخصوصاً حين يتم حماية جزء من الفئة الأثرى في المجتمع من هذه الخسائر، مقابل رمي وزرها على عموم المقيمين من محدودي الدخل.

وحين نلحظ أن جزءا وازنا من الثروات الهاربة من أتون الانهيار اللبناني لجأت إلى الجنّات الضريبيّة بالتحديد، البعيدة عن متناول أي رقابة محليّة أو دوليّة، فمن الطبيعي أن تدور التساؤلات حول مصدر هذه الثروات، وسبب حرص أصحابها على إخفائها بهذا الشكل.

الرقابة الضريبيّة في لبنان لم تسع يوماً إلى ملاحقة ثروات أو أملاك اللبنانيين في الخارج، ولم تعمل يوماً على الاستحصال على معلومات حساباتهم المصرفيّة الأجنبيّة، رغم وجود معاهدات تسمح بذلك

فالرقابة الضريبيّة في لبنان لم تسع يوماً إلى ملاحقة ثروات أو أملاك اللبنانيين في الخارج، ولم تعمل يوماً على الاستحصال على معلومات حساباتهم المصرفيّة الأجنبيّة، رغم وجود معاهدات تسمح بذلك. وبالتالي، فالغاية التي تحققها الجنات الضريبيّة في هذه الحالة ليست سوى إخفاء مصدر هذه الثروات أو طريقة تحصيلها، أو أصحابها الفعليين.

في كل الحالات، تظهر الوثائق المسرّبة أن لبنان، البلد الذي يعاني شعبه اليوم من أقسى أزمة اقتصاديّة بلغت حد المجاعة، يحل في صدارة دول العالم من ناحية عدد الشركات التي أسسها أثرياؤه في الجنات الضريبيّة في الخارج، وفي حجم الصفقات التي قام بها هؤلاء. ولعلّ هذه الظاهرة بالتحديد، تعكس التفاوت الضخم في أثر الأزمة على الفئات الاجتماعيّة المختلفة في البلاد.

من أصل 12 مليون وثيقة مسرّبة، مثّلت شركة "تريدينت تراست" للخدمات الماليّة المصدر الأكبر للوثائق، إذ بلغ عدد الوثائق المسرّبة من هذه الشركة وحدها نحو 3 ملايين وثيقة. وفي وثائق هذه الشركة بالتحديد، التي تمنح عملاءها خدمة تسجيل وإدارة شركاتهم في الملاذات الضريبيّة، يظهر لبنان في المرتبة الأولى بين جميع دول العالم من ناحية عدد الملفات التي تخص مواطنيه، إذ يتبيّن وجود 346 ملفاً لمواطنين لبنانيين.

أما في المرتبة الثانية، فحلّت بريطانيا بفارق شاسع عن لبنان، إذ لم يتجاوز عدد ملفات البريطانيين في هذه الشركة الـ151 ملفاً، رغم ضخامة حجم اقتصاد بريطانيا وعدد مواطنيها مقارنةً بلبنان.

في الوثائق، تظهر أسماء مئات الأسماء اللبنانيّة، من سياسيين ورجال دولة ورجال أعمال مقرّبين من النظام السياسي، بالإضافة إلى مصرفيين وإعلاميين وأسماء لبنانيّة مقرّبة من النظام السوري.

من بين هؤلاء على سبيل المثال، مصرفي أمضى سنوات ما قبل الانهيار في طمأنة المودعين على مصير أموالهم في مصرفه قبل الانهيار، وفي الدفاع عن سياسات المصرف المركزي. ثمّ تبيّن اليوم من هذه الوثائق أنّه كان في ذلك الوقت ينقل ثروته إلى شركات في الملاذات الضريبيّة، لحمايتها من الانهيار المقبل.

كما تظهر في الوثائق أسماء رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، ورئيس الحكومة السابق حسّان دياب. وفي التسريبات نفسها، يتبيّن أن حاكم المصرف المركزي نفسه، المؤتمن على سلامة النظام المالي واستقراره، كان يعمل على تأسيس شركات أجنبيّة في الملاذات الضريبيّة لحماية ثروته في الخارج.

متى خرجت هذه الأموال من لبنان وكيف؟

تظهر إحصاءات لجنة الرقابة على المصارف أن أصحاب الودائع الكبيرة بالعملات الأجنبيّة في النظام المصرفي اللبناني، التي تتجاوز قيمتها المليون دولار، تمكنوا من إخراج نحو 9.92 مليارات دولار من لبنان، قبيل الانهيار المالي الكبير الذي حصل في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، وتحديداً في الفترة الممتدة ما بين عامي 2018 و2019.

وكان نزوح الأموال في تلك الحقبة يعبّر عن قدرة الفئة الثريّة على إخراج أموالها وفتح شركات وحسابات في الخارج، للهروب من الانهيار القادم، بفضل علاقات هذه الفئة ونفوذها وقدراتها الماليّة.

بعد الانهيار المالي، خرج بالطريقة نفسها نحو 16.46 مليار دولار من الحسابات التي تتخطى قيمتها المليون دولار، توزّعت ما بين الأموال التي تم تهريبها إلى الخارج، وتلك التي تم استعمالها داخليّاً لشراء عقارات وإطفاء قروض

وبعد الانهيار المالي، خرج بالطريقة نفسها نحو 16.46 مليار دولار من الحسابات التي تتخطى قيمتها المليون دولار، توزّعت ما بين الأموال التي تم تهريبها إلى الخارج، وتلك التي تم استعمالها داخليّاً لشراء عقارات وإطفاء قروض.

وفي تلك الفترة، استفاد هؤلاء من عدم وجود أي قانون ينظّم الضوابط المفروضة على سيولة النظام المصرفي، ويمنع تهريبها باستنسابيّة لصالح أصحاب النفوذ، خصوصاً أن عموم المقيمين من أصحاب الدخل المحدود كانوا يعانون من القيود التي فرضتها المصارف على عمليات السحب النقدي والتحويل إلى الخارج. ومرّة جديدة، كان التفاوت الكبير في توزيع خسائر الانهيار على الشرائح الاجتماعيّة المختلفة واضحا للعيان.

ما كشفته وثائق باندورا ليس سوى دلالة إضافيّة على طبيعة الأزمة التي مرّ بها لبنان، والمقاربة التي اعتمدها النظام السياسي للتعامل مع هذه الأزمة. فبينما دفع عموم المقيمين كلفة الانهيار على شكل انهيار كبير في قيمة العملة، وتضخّم غير مسبوق منذ نهاية الحرب الأهليّة، وخسارة في قيمة مدخراتهم في المصارف اللبنانيّة، كان هناك فئة قادرة على حماية ثرواتها في الملاذات الضريبيّة المحميّة من هذا الانهيار.

أما الإشكاليّة الأكبر، فتكمن في أن جزءا كبيرا من هذه الفئة المستفيدة من هذا الواقع، يتكوّن من القيّمين على النظامين السياسي والنقدي، الذين يُفترض أن يحرصوا على اتخاذ قرارات تعيد توزيع الخسائر بعدالة.

المساهمون