في 10 مارس/ آذار الجاري، فاجأت الرياض وطهران العالم بإعلانهما استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016 بوساطة الصين، وإعادة تبادل السفارات خلال شهرين.
كان هذا الإعلان بمثابة تحوُّل استراتيجي في أسس سياسات الشرق الأوسط، لا سيَّما بعد تلقِّي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي دعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة المملكة، واستعداد الصين لاستضافة قمة خليجية إيرانية خلال وقت لاحق من العام الحالي.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذه المصالحة السعودية الإيرانية هي بداية لحقبة جديدة من السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، لكن من غير المستبعد أن تكون مجرَّد هدنة هشَّة نظراً للاختلافات العميقة بين البلدين وصراعاتهما التي لا تزال قائمة في اليمن والعراق ولبنان وسورية.
توقيت هذا الإعلان يؤكِّد رغبة الرياض وطهران بمنح فوز دبلوماسي إلى الصين التي تأبى إلّا أن تزاحم الولايات المتَّحدة على النفوذ والدور القيادي في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد استمرار التعنُّت الأميركي الذي قاد هذه الدول الثلاث إلى التيقُّن بأنّ النفوذ والهيمنة الأميركية شحبا ولم يبق منهما إلا روابط هزيلة حان وقت قطعها.
ترى الصين أنّه قد آن الأوان لأن تصبح شريكاً اقتصادياً رئيسياً لدول الخليج العربي، الأمر الذي لن يتحقَّق إن لم تصبح بكين عنصراً مؤثِّراً في التوازنات القائمة في منطقة الشرق الأوسط، ولأجل ذلك بدأت الصين للتوّ رحلتها نحو لعب دور دبلوماسي وأمني أكثر أهمية في المنطقة، ومن هنا قامت بتفعيل وساطتها الأخيرة لكسب ثقة السعودية وإيران معاً.
كما أنّه ليس من قبيل المصادفة أن يتحقَّق التقارب السعودي الإيراني برعايةٍ صينية، فنظرة أميركا الاستعلائية وعدم تشاركيتها وإصرارها على حلّ مشاكلها على حساب الآخرين هي التي مهَّدت الطريق للمصالحة السعودية الإيرانية تحت إشراف الصين، حيث تسعى السعودية جاهدة للتحوُّل إلى قوّة اقتصادية كبرى ضمن رؤية 2030 التي لا تحتمل التهديدات والهجمات الإيرانية التي قد تعطِّل عمليات التنقيب عن النفط والغاز ونقله وبيعه، وتنفِّر الاستثمار الأجنبي المباشر طويل الأجل.
كذلك تحاول إيران إيجاد مخرجٍ من أزمتها المركَّبة التي تفاقمت بفعل عدم استقرار النظام في أعقاب الاحتجاجات الأخيرة غير المسبوقة المناهضة للحكومة، وتردِّي وضعها الاقتصادي، وتعثُّر المفاوضات النووية.
هذا بينما كلّ ما تكترث له الولايات المتَّحدة هو إبقاء أسعار النفط في الأسواق الدولية دون المستويات التي تشعل غضب مواطنيها، والحرص أيضاً على تعطيل البرنامج النووي الإيراني وتحجيمه لإرضاء دولة الاحتلال الصهيوني، وهذه هي الثغرات التي صبَّت في مصلحة الصين التي لا تفوِّت فرصة لتحقيق أهدافها الاقتصادية الطموحة.
تؤكِّد هذه الصفقة السعودية الإيرانية عالية العوائد وقليلة المخاطر نجاح بكين في استعراض عضلاتها الدبلوماسية في مواجهة الولايات المتَّحدة في المنطقة التي لطالما اعتمدت عليها في تزويد الأميركيين بنفط رخيص، وضمان وجود مشترين لأسلحتها وتنفيذ أجندتها وحماية مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل.
تلعب الصين على الوتر الحسَّاس لأميركا والمتمثِّل في إرساء السلام بين السعودية وإيران، والذي يعدّ مقدِّمة حاسمة لحدوث الاستقرار الإقليمي في الخليج العربي والشرق الأوسط، والذي يتنافى أيضاً مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتَّحدة وإسرائيل.
تناور الصين بذكاء في معركة حاسمة من الممكن أن تُحدث زلزالاً إقليمياً وتغييراً جذرياً من التحالف التاريخي للخليج مع الولايات المتَّحدة نحو نظام عالمي جديد يتمحور حول الصين، من خلال الاعتماد على الوساطة الجيوسياسية، ودون دفع الفواتير الباهظة التي دفعتها أميركا نتيجة انخراطها في تغيير معالم الشرق الأوسط تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، وأبرزها فاتورة التواجد العسكري الأميركي في العراق التي قُدِّرت بنحو ترليوني دولار، بحسب التقرير الذي أصدره معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2020 تحت عنوان "تكلفة الحرب المُموَّلة بالديون: الدين العام والفوائد المتزايدة للإنفاق على الحرب بعد 11 سبتمبر/ أيلول".
فقد بلغت الفوائد التراكمية المرافقة لذلك الإنفاق 925 مليار دولار، والتي ستستمرّ في الارتفاع حتى بعد اتِّفاق الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2021، حيث يشير هذا التقرير إلى وصول مدفوعات الفوائد إلى أكثر من 2.14 تريليون دولار بحلول عام 2030 وإلى 6.5 تريليونات دولار بحلول عام 2050.
ويُؤكّد هذا التقرير أنّ الإنفاق على الحروب يعتبر عنصراً مهماً في زيادة الدين العام الأميركي الذي وصل إلى 31.46 تريليون دولار في فبراير/ شباط 2023 للمرّة الأولى في التاريخ بحسب بيانات وزارة الخزانة الأميركية.
لقد تزامنت الوساطة الصينية في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران مع بدء ولاية الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الثالثة التي بدا واضحاً أنّها تتضمَّن بناء علاقات اقتصادية أكثر قوَّة من ذي قبل ومدعومة بالتأثير السياسي والنفوذ الدبلوماسي ولمَ لا؟ حتى الوجود العسكري الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، حيث تحاول الصين أن تثبت أنّها شريك موثوق به لضمان أمن السعودية دون الاضطرار للرضوخ لشروط كتلك التي تفرضها أميركا مثل ضرورة التطبيع مع إسرائيل مقابل الحصول على الأسلحة والمعدّات العسكرية الأميركية المتطوِّرة.
بغضّ النظر عن مساعي الصين الخفية وراء هذه المصالحة، إلا أنّها تتَّبع بوضوح نهج "العصا والجزرة" الذي يقوم على مبادئ التعاون والتنمية الاقتصادية على عكس أميركا التي تَبيَّن أنّها تستخدم العصا فقط دون الجزرة، وهذا ما ضاقت به المملكة السعودية ذرعاً، والتي تبحث جرّاء ذلك عن استقلال أكبر عن واشنطن واستغلالها اللامحدود ودعمها المشروط.
خلاصة القول، تقف إدارة جو بايدن في حيرة من أمرها تجاه وساطة الصين التي تمسّ مباشرة بمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط لا سيَّما بعد أن قرَّرت الانسحاب التدريجي من هذه المنطقة، والتركيز على مواجهة الصين في منطقة الهادئ وشرق وجنوب شرق آسيا، لكنّ بكين تصرّ على تشتيت انتباه منافسيها في البيت الأبيض وإبقائهم مشغولين قدر الإمكان بالالتزام طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط.