تدفع الشعوب والحكومات ثمناً غالياً من موازناتها ومدخراتها تصدياً لموجة التضخم العاتية التي تضرب العالم منذ انتشار وباء كورونا أواخر العام 2019، لكن يبدو أن 2024 سيشكل نقطة انكسار فارقة.
فبعدما اخترق كل الخطوط الحمراء خلال الأعوام الثلاثة الماضية مسجلاً أعلى مستوياته منذ عدة عقود، لا سيما في أميركا الشمالية وأوروبا، تشير توقعات محللين كبار إلى إمكانية عودة معدلات التضخم بحلول نهاية عام 2024 إلى الأهداف التي رسمتها المصارف المركزية، والتي لطالما شكلت "مناطق الراحة" بالنسبة للسياسة النقدية. فالتضخم في جميع أنحاء العالم يتباطأ بشكل أسرع من المتوقع.
وإذا كان خبراء الاقتصاد على حق، فإن هذه "الهدية" من التوقعات في موسم الأعياد سوف تستمر في العطاء العام المقبل، الأمر الذي من شأنه أن يعيد التضخم إلى مستوياته الطبيعية للمرة الأولى منذ نحو 4 سنوات.
وبما يصب في هذا الاتجاه، يقدر الاقتصاديون في مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي أن التضخم الأساسي، الذي يستثني الغذاء والطاقة، في مجموعة الاقتصادات التي شهدت طفرة التضخم في مرحلة ما بعد كورونا، وتحديداً الولايات المتحدة وأوروبا والعديد من الأسواق الناشئة، قد بلغ معدله السنوي 2.2% خلال الأشهر الثلاثة المنتهية في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم.
ووجد المحللون أنه بحلول نهاية عام 2024، يجب أن يكون متوسط التضخم بين هذه المجموعة عند أو قريباً من أهداف التضخم لمعظم البنوك المركزية الكبرى، وفقاً لما أوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" على موقعها الإلكتروني.
ومن شأن انخفاض التضخم أن يؤدي إلى إسناد النمو الاقتصادي بطريقتين: أولاً من خلال تعزيز القوة الشرائية للأسر، وثانياً تمكين المصارف المركزية من خفض أسعار الفائدة.
وفي هذا السياق، يتوقع كبير المستشارين في مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس" مايكل سوندرز أن يصل التضخم إلى 1.3% في الربع الرابع من العام المقبل في منطقة اليورو، و2.7% في المملكة المتحدة، بينما سينخفض في الولايات المتحدة إلى 2.2% وفقاً لقياسات التضخم الشخصي المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي، والمستندة إلى الرقم القياسي لأسعار الإنفاق والاستهلاك.
وذكرت وزارة التجارة الأميركية يوم الجمعة الماضي، أن هذا المقياس بلغ 2.6% في نوفمبر. وباستثناء الغذاء والطاقة، بلغ المعدل 3.2%، و1.9% فقط على أساس سنوي خلال الأشهر الستة الماضية، علماً أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والبنك المركزي الأوروبي و"بنك إنكلترا" تستهدف معدل تضخم عند 2%.
4 عوامل تدفع التضخم إلى التراجع
سوندرز، وهو العضو السابق في لجنة السياسة النقدية لدى بنك إنكلترا، يبيّن أن "العوامل المشتركة التي تدفع معدلات التضخم إلى الانحسار هي الغذاء والطاقة وأسعار السلع العالمية والسياسة النقدية. لكن الاختلافات، ولماذا سيعود التضخم بخطى أسرع إلى الهدف في منطقة اليورو، تكمن في أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تواجهان أيضاً ضغوطاً أكبر من ضيق سوق العمل، والتي تتلاشى فقط تدريجياً".
وهذه التحسينات هي الوجه الآخر لموجات التضخم التي ضربت الاقتصاد العالمي. ففي البداية، تحديداً عام 2021، ارتفعت أسعار السلع بسبب تعطل الإنتاج والشحن العالميين، إضافة إلى الطلب القوي بسبب التحفيز المالي والنقدي.
ثم أدى غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022، إلى رفع أسعار السلع الأساسية، ما أدى إلى بلوغ التضخم أعلى مستوياته منذ عدة عقود، وقد سجل في منطقة اليورو، التي عانت من انقطاع الغاز الروسي، ذروته عند 10.6% في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
كما تعطلت القوى العاملة بسبب الاضطرابات المرتبطة بإغلاقات كورونا. وعلى هذا، أدى الطلب المتزايد على العمال إلى رفع الأجور بشكل حاد، الأمر الذي أدى إلى تضخم الخدمات. كما أدت تكاليف الإسكان إلى مفاقمة تضخم الخدمات.
في الولايات المتحدة، ارتفعت أسعار المستهلكين 3.1% في نوفمبر المنصرم مقارنة بالعام السابق، لكن بنسبة 1.4% فقط باستثناء المساكن. وكان التأثير أقل بكثير في أوروبا، حيث تم حذف المساكن التي يشغلها مالكوها من مقاييس التضخم الرئيسية.
وأدت سلاسل التوريد المفتوحة إلى انخفاض التضخم قرب نهاية عام 2022 وطوال العام الجاري، فيما من المرجح أن يستمر ذلك خلال العام المقبل.
ففي الولايات المتحدة مثلاً، لا يزال من المتوقع أن تنخفض أسعار السيارات المستعملة - وهي المحرك الأولي الرئيسي للتضخم - في أوائل عام 2024، مع عودة السوق إلى وضعها الطبيعي، حسبما قال مؤسس "إنفلايشن سايتس" عامر شريف.
كما تكيفت أسواق الطاقة والسلع الأساسية مع الاضطرابات التي شهدتها أوكرانيا، ما ساعد على خفض أسعار الطاقة واستقرار تكاليف الغذاء.
وحول هذه النقطة، قال رئيس الأبحاث الاقتصادية في "رينيسانس ماكرو ريسيرش" نيل دوتا إن هذه العوامل ستستمر في التأثير على التضخم عام 2024. مضيفاً: "انخفضت أسعار الطاقة، ونظراً لانخفاض أسعار الديزل، فمن المحتمل أن نرى ذلك مؤثراً في أسعار المواد الغذائية والبقالة في الأشهر المقبلة".
وبدأت أسواق العمل في العديد من الاقتصادات الكبرى تستعيد توازنها هذا العام أيضاً، ما أدى إلى تباطؤ نمو الأجور، وهي المتغيّر الرئيسي في تكاليف الخدمات، وينبغي أن يستمر ذلك في عام 2024.
لكن سيختلف التوقيت والتأثير باختلاف أحوال كل بلد، بحسب كبير الاستراتيجيين العالميين في "بي سي إيه" بيتر بيريزين الذي قال: "يمكن القول إن هذا قد حدث فعلاً في الولايات المتحدة"، مضيفاً أن ضغوط الأجور تراجعت كثيراً بسبب تدفق العمال إلى الأسواق.