تستمر المعركة بين الأطعمة المعدّلة وراثياً والعضوية، وقد يكون هذا الجدل هو السبب وراء تأجيل حكومة المملكة المتحدة الإعلان عن نتيجة المناقشة التي كانت مقررة في 17 يونيو/حزيران الماضي، التي أطلقتها لتقصي الحقائق مع الجمهور، أي "استشارة" العامة، لتحديد ما إذا كان يمكن بيع المحاصيل المعدلة وراثيًا لإضفاء سمات جديدة يزداد الطلب عليها في البلاد، من دون تصنيفها على أنها منتجات معدلة وراثيًا.
وكان بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، قد تعهّد في عام 2019 بـ"تحرير قطاع العلوم الحيوية في المملكة المتحدة من قواعد التعديل الجيني" بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
جدل داخلي
غير أنّ هذه السياسة أثارت جدلاً في البلاد بين مؤيد ومعارض، على الرغم من تأكيد خبراء التكنولوجيا الحيوية في المملكة المتحدة أن التحرّر من قواعد التعديل الجيني التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، سيسرّع البحث ويحفز الاستثمار، لأنّ النباتات والحيوانات المعدلة وراثيًا لن تحتاج إلى تطبيقات ومراجعات تفصيلية قبل التجارب الميدانية والموافقة التجارية.
وعلى النقيض من ذلك، يواجه أي منتج معدّل وراثيًا (GMO) في أوروبا، بغض النظر عن كيفية إنتاجه، تقييمًا مطولًا للمخاطر من قبل هيئة سلامة الأغذية الأوروبية، ويجب أن تتم الموافقة عليه من قبل غالبية الدول الأعضاء قبل أن يُزرع.
في المقابل، يقول معارضو هذه السياسة إن وزارة البيئة والأغذية والشؤون الريفية تتحرك بسرعة كبيرة، وهناك مخاوف من أن الحيوانات والمحاصيل المعدلة لمقاومة الأمراض يمكن أن تعزز ممارسات الزراعة المكثفة الضارة بيئيًا.
كما تثير الصفقات التجارية المستقبلية مع مصدري الأغذية ذوي النفوذ، مثل الولايات المتحدة وأستراليا، قلق مجموعات من مزارعين ونشطاء ومستهلكين، يتخوّفون من تهديدها لجودة وسلامة الأغذية في السوق البريطانية.
ويدرك المقيمون في بريطانيا أنّ العثور على أصناف خضروات وفواكه بنكهاتها اللذيذة قد يكون أمرًا صعبًا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى متطلبات محلات السوبر ماركت.
يواجه أي منتج معدّل وراثيًا (GMO) في أوروبا، بغض النظر عن كيفية تكوينه، تقييمًا مطولًا للمخاطر من قبل هيئة سلامة الأغذية الأوروبية
ومنذ أن بدأت تطالب المتاجر بأصناف تتمتع بميزات جديدة، مثل عمر تخزين أطول، تراجع الاهتمام بسمة النكهة. على سبيل المثال، أصبحت الطماطم بقشرة أكثر سماكة كي لا تتفسّخ بسهولة وتحتفظ بقوامها لفترة أطول، لكن بات معظمها من دون نكهة.
وفي تقرير حديث نشرته هيئة الإذاعة البريطانية في أواخر يونيو/حزيران، يقول فرانكو فوبيني، مؤسس شركة "ناتورة"، إنّ "البحث عن النكهة في الأطعمة يتجدّد اليوم أكثر من قبل، ويساهم في تعزيز الطلب عليها سفر الناس وبعض الطهاة الذين يبحثون عن النكهة في الفاكهة والخضروات".
وعلى الرغم من أنّه يمكن استخدام التعديل الوراثي لتحسين نكهة المنتجات، خاصة الفواكه والخضروات، عن طريق استيراد جينات من الأنواع الأخرى، فإن هذا النوع لا يزال محظوراً في الكثير من أنحاء العالم، لكن هناك أشكالاً أخرى من التلاعب الجيني باتت مقبولة على نطاق واسع.
وعلى سبيل المثال، تعمل شركة "بيرويز" (Pairwise) الأميركية على أنواع جديدة من الفاكهة والخضروات باستخدام تقنية "كريسبر"، لتعديل الجينات المرخصة من هارفارد ومعهد برود ومستشفى ماساتشوستس العام.
وبدلاً من أخذ الجينات من الأنواع الأخرى، مثل الجينوم المعدل، تتضمن تقنية "كريسبر" تعديل الجينات الموجودة داخل النبات عن طريق القطع والتضفير.
ويعتبر مثل هذا التعديل الجيني "غير معدّل وراثيًا" في معظم دول الأميركتين الشمالية والجنوبية واليابان، لكنّه يخضع في أوروبا لقواعد صارمة باعتباره معدلاً وراثيًا.
ويهدف الاتحاد الأوروبي بموجب الصفقة الخضراء إلى "استعادة التوازن في علاقتنا مع الطبيعة"، من خلال التركيز على ثلاثة محاور: تعزيز الاستهلاك، ومساعدة المستهلكين على اتخاذ خيارات مستنيرة، إلى جانب زيادة الإنتاج وتحسين استدامة القطاع.
إقبال على الأغذية العضوية
وكما أثّرت جائحة كوفيد 19 على جميع مناحي الحياة، فقد أثارت أيضاً مخاوف الناس حول صحتهم وحمايتها، ولعبت دوراً في اختيار أنواع الأطعمة، ويظهر ذلك في بيانات العديد من الأسواق العالمية التي تظهر ابتعادهم عن المنتجات المعدّلة وراثياً، والميل إلى شراء الأغذية العضوية.
ومع أنّ سوق الأغذية العضوية في الولايات المتحدة كان يشهد نموًا قويًا عامًا في العقدين الأولين من هذا القرن، بيد أنّ الجائحة ساعدت من معدل النمو بنسبة قياسية بلغت 12.8٪ في عام 2020 إلى مستوى مرتفع جديد قدره 56.4 مليار دولار.
وإن قرابة 6٪ من المواد الغذائية التي بيعت في الولايات المتحدة العام الماضي كانت عضوية معتمدة، وفي فترة ما قبل كوفيد اشترى 82٪ من المستهلكين الذين شملهم الاستطلاع الأطعمة والمشروبات العضوية شهريًا على الأقل، و18٪ أسبوعيًا، و11٪ يوميًا.
دفعت جائحة كورونا المستهلكين للابتعاد عن المنتجات المعدّلة وراثياً، والميل إلى شراء الأغذية العضوية التي أصبحت أكثر شعبية
وكان أحد أهم أسباب شراء الأغذية العضوية في الولايات المتحدة الأميركية هو تجنّب الأطعمة المعدلة وراثياً، التي أثارت القلق بشأن سلامة الأغذية "العادية" والتلاعب البشري بها.
وتشير أحدث البيانات إلى أنّ مبيعات المنتجات الغذائية العضوية في المملكة المتحدة ارتفعت بنسبة 13٪ في 2020، وهو أعلى مستوى نمو منذ 15 عامًا.
ونمت الأغذية العضوية المعلبة والمعبأة أكثر من غيرها بنسبة 20٪، تلتها اللحوم والدواجن والأسماك 17٪، لكن إجمالي المبيعات لا يزال متواضعاً عند 2.8 مليار جنيه إسترليني (أقل من 4 مليارات دولار).
وعلى أساس نصيب الفرد، تمثل مبيعات الأغذية العضوية في المملكة المتحدة ثلث مبيعات الولايات المتحدة منها.
وتاريخيًا، أشارت تعريفات التكنولوجيا المعدلة وراثيًا في الزراعة إلى أنّ الجينات المعدلة وراثيًا تشمل إدخال جينات غريبة في الخلايا النباتية، وغالبًا من دون السيطرة على مكان هبوط هذه الجينات في الجينوم.
وكانت هذه من بين أسباب حظر تسويق التكنولوجيا المعدلة وراثيًا بشكل فعال في الاتحاد الأوروبي، لكن العديد من الباحثين يقولون إن معظم التطبيقات الحالية لتحرير الجينات باستخدام تقنية "كريسبر" تنتج أنواع التغيير التي كان من الممكن تحقيقها من خلال التربية التقليدية وبشكل أكثر كفاءة.
وتتفق حكومة المملكة المتحدة بشكل عام مع هذا الرأي، خاصة أنّ خروجها من الاتحاد الأوروبي يمنحها فرصة الابتعاد عن قواعده. ولا تنفرد وحدها باقتراح تغيير قوانينها بهذه الطريقة، بل حدّثت دول أخرى قواعدها لاستيعاب المنتجات الزراعية التي أنشئت باستخدام أدوات تحرير الجينوم.
وطوّر البعض منها، مثل الأرجنتين والبرازيل واليابان، نظامًا يصنّف المنتجات المعدلة جينيًا على أساس كيفية تعديلها، ويتخذ القرارات على أساس كل حالة على حدة. وتعتبر الولايات المتحدة أيضًا أن العديد من المحاصيل المعدلة جينيًا تشبه المحاصيل المطورة تقليديًا.