يروج النظام المصري لتعرضه للخذلان والسلبية من قبل الدول الأعضاء في مجلس الأمن بعد عرض أزمة سد النهضة الإثيوبي على المجلس يوم الخميس، 8 يوليو/ تموز.
ويستخدم النظام أدواته الرسمية والإعلامية والشعبية لإلقاء اللوم على المجلس واتهام أعضائه جميعا برفض انخراطه فى حل أزمة السد، ورفض وصف الأزمة بأنها مهددة للأمن والسلم الدوليين، واعتبارها أزمة قابلة للحل تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، والترويج إلى أن الأزمة فنية وليست سياسية، وذلك مخافة أن تشكل سابقة يتم الاعتماد عليها في التفاعل مع مشكلات مماثلة لدول مؤثرة في النظام الدولي.
وعبر وزير الخارجية المصري سامح شكري عن الاستياء من عدم إدانة أعضاء المجلس التعبئة الثانية للسد دون اتفاق، وعن عدم الارتياح لتجاهل المجلس إدانة التعبئة الثانية للسد، وألقى باللوم على الوضع المعقد والمواءمات والاعتبارات السياسية في المجلس.
وانتقد ما سمّاه "الخذلان الدولي"، وطالب أعضاء المجلس بتقديم تبرير لعدم تحمل مسؤولياتهم تجاه إدانة إثيوبيا واعتبار قضية السد ليست قضية مياه، وإنما قضية دبلوماسية وقائية وصراعا يتعلق بسد يشكل تهديدا وجوديا لمصر.
أما رئيس البرلمان المصري حنفي جبالي، والذي يتحدث عن الأزمة للمرة الأولى وربما ستكون الأخيرة، فطالب المجتمع الدولي بضرورة اتخاذ مواقف أكثر إيجابية للتوصل لاتفاق يضمن ويحافظ على حقوق مصر المائية وأمنها المائي.
رغم إصرار شكري على مطالبة مجلس الأمن بإدانة الملء الثاني، لكن الحقيقة التي يتجاهلها النظام المصري هي أن الملء الثاني لا يمثل الخطر الأكبر لسد النهضة، كما أن إدانته لن تحل الأزمة، والاتفاق بشأن قواعد الملء أو عدم الاتفاق لن يقلل من المخاطر الحالية والمستقبلية للسد على مناحي الحياة في مصر والسودان.
وقد سبق لمجلس الأمن أن حذر إثيوبيا من تنفيذ الملء الأول دون اتفاق في منتصف العام الماضي، ورغم التحذير والإدانة الاستباقية، نفذت إثيوبيا الملء الأول بعد أيام من تحذير المجلس ودون اكتراث.
ذلك أن مصر وقعت منفردة بالموافقة على اتفاق واشنطن في فبراير/ شباط من العام الماضي بما يتضمنه من توقيتات الملء وكميات المياه التي سوف يتم احتجازها في كل مرة، وهي نفسها الكميات التي قالت إثيوبيا إنها ستستخدمها في الملء الأول والثاني وغيرهما في المرات اللاحقة.
كما لم تمانع أو تعترض على بناء السد ابتداء، بشهادة وزير الري محمد عبد العاطي. بل بارك نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي السد، واعتبره مصدر الخير والتنمية التي ستعم على المنطقة كلها. وبالتالي لا مبرر لتوجيه اللوم إلى أعضاء مجلس الأمن لعدم إدانة الملء الثاني.
مع الأخذ في الاعتبار أيضا أن السيسي هو من أعطى المشروعية القانونية وقبلة الحياة للسد بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس/ آذار 2013، وقد نص على الموافقة على بناء السد قبل البدء في المفاوضات بشأنه. وهو منطق مقلوب وسابقة قانونية. إذ كيف توافق الدولة المتضررة من السد على بنائه ثم تتفاوض على وجوده من عدمه. وبالتالي هو المسؤول عن وضع مصر في موقف كارثي مهين، بحسب تعبير رئيس أركان الجيش المصري السابق، الفريق سامي عنان.
بارك نظام السيسي السد، واعتبره مصدر الخير والتنمية التي ستعم على المنطقة كلها. وبالتالي لا مبرر لتوجيه اللوم إلى أعضاء مجلس الأمن لعدم إدانة الملء الثاني
نعيد ونكرر أن حجم السد، وليس الملء الثاني، هو الخطر الأكبر في الأزمة. ورغم اتهام شكري حكومة إثيوبيا بالمبالغة في حجم السد، وقال إنها قامت بتغيير المواصفات الفنية للسد ورفعت قدرته التخزينية من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا، وإن الزيادة الهائلة في حجم خزان السد غير مبررة وتثير تساؤلات بشأن "الغرض الفعلي من السد واستخداماته المتوقعة"، وإن هذا الحجم يزيد بشكل هائل من تأثيراته السلبية المحتملة، رغم ذلك كله، اهتم شكري بتوجيه اللوم لمجلس الأمن لعدم إدانته الملء الثاني وتجاهل المشكلة الأكبر، وهي حجم السد المبالغ فيه. ولم يطالب في أي وقت ولا في أي محفل بتقليل حجم السد، بشهادة وزير الخارجية الإثيوبي عقب توقيع اتفاق مارس سنة 2015!
ولا خلاف على عدالة القضية المصرية في أزمة سد النهضة الذي يشكل بالفعل تهديدا وجوديا لمصر والسودان، لكن اتهام النظام المصري لأعضاء مجلس الأمن بالخذلان والتجاهل ليس إلا تعليقا للفشل المتكرر منذ سنوات في إدارة الأزمة على شماعة مجلس الأمن. ذلك أن مشروع القرار الذي قدمته تونس بطلب من مصر والسودان بشأن سد النهضة لم يكن سوى خطاب إحاطة تحت الفصل السادس، وليس السابع، من ميثاق الأمم المتحدة.
الفصل السادس يعطي الحق لكل عضو من أعضاء الأمم المتحدة أو من خارجها في أن "يحيط" مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة علما بأي نزاع أو موقف من شأنه أن يعرض السلم والأمن الدولي للخطر.
ويقوم مجلس الأمن، وفق المادة 36، بتقديم "توصيات" لحل النزاع بطريق المفاوضات من خلال المؤسسات الإقليمية. وكان على مصر والسودان مطالبة المجلس بالتدخل لحل الأزمة تحت الفصل السابع. ذلك أن القرارات تحت الفصل السابع لها صفة "الإلزامية" عكس القرارات تحت الفصل السادس والتي لا تزيد عن "التوصيات".
وعندما يقرر مجلس الأمن وقوع تهديد للسلم والأمن أو عدوان عليهما، فإنه يطلب من أعضاء الأمم المتحدة "تطبيق" تدابير لحفظ السلم وإعادة الأمن الدولي إلى نصابه.
ومن بين هذه التدابير قطع العلاقات الدبلوماسية، وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كلياً.
ومن التناقضات التي ظهرت في الأزمة أنه في الوقت الذي تطالب فيه مصر والسودان مجلس الأمن باعتبار سد النهضة تهديدا للسلم وعدوانا على الأمن المائي والغذائي والقومي للشعبين، ترفع الدولتان الأزمة تحت الفصل السادس، وليس السابع، وتقران بجدوى المفاوضات السلمية لحل الأزمة، وتتمسكان بها!
من التناقضات أنه في الوقت الذي تطالب فيه مصر والسودان مجلس الأمن باعتبار سد النهضة تهديدا للسلم وعدوانا على الأمن المائي والغذائي والقومي للشعبين، ترفع الدولتان الأزمة تحت الفصل السادس
هل تتوقع الدولتان أن يستشعر المجلس خطورة السد على السلم والأمن، والمفاوضات ما زالت خيارهما الاستراتيجي؟! وهل تنتظر الدولتان أن يوصي المجلس بتفعيل تدابير خشنة ضد إثيوبيا في الوقت الذي تحافظان فيه على العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها؟! وكيف سيتهم مجلس الأمن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بتهديد السلم والأمن في مصر والسودان بينما يثني السيسي عليه ويهنئه بحصوله على جائزة نوبل للسلام ويقول إنه رجل سلام حقيقي؟!
تهنئة السيسي كانت في قمة دولية رسمية، هي أفريقيا - روسيا المنعقدة في مدينة سوتشي الروسية في يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2019. أحاطت تهنئة السيسي أحمد مفارقتان لهما دلالات مهمة في إدارة الأزمة، وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء.
المفارقة الأولى، أنها جاءت بعد يومين فقط من تهديد أحمد بشن الحرب ضد مصر وتوعده بحشد الملايين لخوض حرب إذا تطلب الأمر من أجل إنجاز سد النهضة، خلال جلسة عامة من داخل البرلمان الإثيوبي وأذاعها التلفزيون الرسمي على الهواء مباشرة. المفارقة الثانية أنها جاءت بعد يوم واحد فقط من إلقاء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اللوم على مصر لعدم تفجير السد ووقف البناء من البداية.
وقال في 23 أكتوبر 2020، خلال اتصال هاتفي مع قادة السودان وإسرائيل نقله التلفزيون الأميركي: "لا يمكنكم لوم مصر لشعورها بقليل من الانزعاج.. الوضع خطير جدا لأن مصر لن تتمكن من العيش بهذه الطريقة وسينتهي بهم الأمر إلى تفجير السد.. قلت ذلك سابقا، وأقولها الآن بصوت عال وواضح: سيفجرون هذا السد، وعليهم أن يفعلوا شيئا، كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقت طويل من بدايته".
ومعلوم أن المادة 51 من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة تعطي الدولة الحق في التدخل بكل السبل للدفاع عن الأمن القومي.
مجلس الأمن لم يخذل مصر والسودان، ولم "يوصِ" بأكثر مما طلب وزيرا الخارجية في الدولتين، وهو إعادة إثيوبيا إلى مسار التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي
ومن المفارقات أيضا أن ترامب قطع المساعدات المالية عن إثيوبيا في 2 سبتمبر/ أيلول سنة 2020، وقال إنه فعل ذلك بسبب رفضها التوقيع على الاتفاق الذي توسط فيه، في الوقت الذي تقدم فيه الإمارات والسعودية تحديدا مساعدات واستثمارات لإثيوبيا بمليارات الدولارات، رغم دعم جامعة الدول العربية موقف مصر والسودان ضد إثيوبيا التي تعرض الحياة في الدولتين لتهديد وجودي!
وقالت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان رسمي، إن الوزير مايك بومبيو قرّر تعليق جزء من المساعدات المخصّصة لإثيوبيا بتوجيهات من الرئيس ترامب، الذي اتهم الحكومة الإثيوبية بعدم الوفاء بـ"التزاماتها" في ما يتعلق بالمفاوضات التي يقودها الاتحاد الأفريقي، ورأى أنّ الانتقال إلى الملء أثناء المفاوضات يقوّض ثقة الأطراف الأخرى.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية لوكالة "أسوشييتد برس"، إن قرار "الإيقاف المؤقت" للمساعدات "للحليف الأمني الإقليمي الرئيسي" يعكس القلق بشأن البدء في الملء الأول قبل التوصل إلى اتفاق والتأكد من جميع تدابير سلامة السد الضرورية.
إن مجلس الأمن لم يخذل مصر والسودان، ولم "يوصِ" بأكثر مما طلب وزيرا الخارجية في الدولتين، وهو إعادة إثيوبيا إلى مسار التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، وأن يتم ملء وتشغيل سد النهضة بناء على اتفاق قانوني ملزم.
وهي نفسها "توصية" المجلس في العام الماضي، والتي جاءت ردا على الطلب نفسه الذي رفعه وزير الخارجية سامح شكري، ولكن بعد ضياع سنة كاملة من المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي والتي وصفها هو نفسه بالفاشلة. وربما يعاود في العام القادم رفع الطلب ذاته للمجلس للمرة الثالثة قبل الملء الثالث ليصدر المجلس التوصية نفسها.