- في العقود الأخيرة، ظهرت دعوات لبريطانيا ومؤسساتها للاعتذار وتقديم تعويضات لأحفاد الأفارقة المستعبدين، مع كشف وثائق تورط العائلة المالكة والكنيسة في تجارة الرقيق.
- الكنيسة أعلنت عن تأسيس صندوق بقيمة 100 مليون جنيه إسترليني لدعم المجتمعات المتضررة، وسط نقاشات حول التعويضات ومعارضة من بعض البريطانيين لفكرة دفع تعويضات عن أفعال أسلافهم.
على مدى ثلاثة قرون أو أكثر، ظلت بريطانيا التاجر الأكبر للرقيق في العالم، ثلاثة قرون راكمت خلالها الإمبراطورية من رأس المال والثروات المجانية ما أهلها لتكون الرائد الأول للثورة الصناعية في العالم، وجعل عاصمتها وموانئها مركز التجارة الكونية بحسب مؤرخين كثيرين.
لكن العقود الأخيرة تشهد دعوات متزايدة من جانب منظمات حقوقية ودولية تطالب بريطانيا الرسمية والعائلة المالكة والكنيسة بالاعتذار عن تورطهم في جريمة الاتجار في ملايين الأفارقة عبر الأطلسي وتقديم التعويضات المناسبة لأحفادهم والمجتمعات التي ينتمون إليها في منطقة الكاريبي والقارة الإفريقية. هذه الدعوات كانت في الماضي تٌقابل برفض أو استهجان من جانب الحكومة والرأي العام، ودعوات من التسامح مع الماضي وإصلاح الحاضر.
لكن "اقتصاد الرق" أو العبودية ، لم يكن مجرد جشع شخصي، بل كان اقتصاداً منظماً انخرطت فيه العائلة المالكة والبرلمان والكنيسة، كما تكشف أوراق مفرج عنها مؤخراً من مجلس العموم وكنيسة إنكلترا. فبدءاً من العام 1562 حتى دخول قرار تحرير العبيد حيز التنفيذ في 1834، كانت السفن تتجه من السواحل البريطانية محملة بالسلع إلى سواحل غرب إفريقيا لتعود من هناك محملة بـ"الرقيق" الذين تم صيدهم واستعبادهم على أيدي عصابات منظمة يرعاها البريطانيون، لتتجه بهم صوب مستعمرات بريطانيا في الأميركيتين، الجنوبية والشمالية، وجزر عبر البحار، حيث المزارع التي استولى عليها الأوروبيون من السكان الأصليين، ومن هناك تعود السفن نفسها محملة بالسلع التي أنتجها هؤلاء الرقيق وأبناؤهم الذين وُلدوا في الرق لتبيعها في أسواق بريطانيا وأوروبا.
اقتصاد منظم
تنظيم ذلك الاقتصاد شمل جهات كثيرة، من شركات "الشحن والتجارة" التي صدرت بمراسيم ملكية، إلى شركات التأمين على تلك "الشحنات" البشرية التي ساهمت فيها بنوك شهيرة مثل "لويدز" إلى البحرية الملكية والحراسة التي ترافق السفن أو تنظم احتجازهم وحبسهم في الموانئ كما تظهر الوثائق والسجلات التي لا تزال ذاخرة بقوائم بيع العبيد وشرائهم حتى الآن. وعادت أرباح تلك التجارة على الجميع من أصحاب المزارع الذين اشتروا الرقيق بوصفهم قوة عمل مجانية إلى المواطن العادي الذي استمتع بالسكر والتبغ ومنسوجات القطن والروم بأسعار رخيصة، من دون اكتراث لعرق من أنتجوها على بعد آلاف الأميال في مزارع النبلاء البريطانيين.
وتؤكد دراسات تاريخية أن تلك العائدات لم تكن مجرد رقم عادي في العملية الاقتصادية، بل ربما كانت الرقم الأكبر. و تقول البروفيسور ماريكا شيروود، أستاذ التاريخ والباحثة البارزة في هذا الملف في مقابلة مع "العربي الجديد " إن الثورة الصناعية ما كانت لتحدث في بريطانيا بدون عوائد الرق وتجارة الرقيق عبر الأطلنطي، مضيفة: "بدون ذلك كانت بريطانيا ستظل جزيرة صغيرة ودولة ذات اقتصاد عادي، هكذا يبدو الأمر لي ببساطة".
لكنّ معلقاً محافظاً مثل سام أشورث-هايز يجادل في مقال بمجلة "سبيكتاتور" بأن أرباح تجارة الرقيق عبر الأطلنطي لم تكن ذات تأثير يذكر في قيادة بريطانيا لثورة التصنيع. "أرباح تلك التجارة لو وظفت كاملة لم تكن لتمثل أكثر من 3% في إجمالي الاقتصاد البريطاني عام 1770" على حد قوله. وترد البروفيسور شيروود على ذلك قائلة " إن تجارة الرقيق بدأت في القرن السادس عشر وحدثت الثورة الصناعية بعد ذلك بقرنين، الأموال التي راكمها الرأسماليون من تجارة الرقيق والمزارع التي سخروهم فيها هي التي تم استثمارها في مد السكك الحديدية والقنوات المائية التي سهلت انتقال السلع إلى بريطانيا، ما تطلب بناء المصانع وسفن حديثة لبيعها خارج بريطانياّ".
مكافأة ملاك العبيد
واسترق التجار البريطانيون ما يزيد عن 3.2 ملايين أفريقي، قضى منهم 1.2 مليون شخص في الرحلة الوسطى من أفريقيا إلى العالم الجديد. حياة الرقيق أو موتهم كانت مكسباً للتجار، فوصولهم سالمين كان يعني بيعهم لأصحاب المزارع البيض، وموتهم على متن السفن في ظروف "شحن" غير بشرية كان يعني تقاضي أصحاب الشحنة تعويضاً من شركات التأمين يقترب من 47 جنيهاً استرلينياً للشخص الواحد.
وتوسع استغلال المستعمرات في الكاريبي وتحولها للمصدر الرئيسي لسلع كثيرة في مقدمها السكر الذي أصبح السلعة الأهم لأوروبا، ما عزز جشع البريطانيين لجلب مزيد من أبناء أفريقيا واسترقاقهم، وبحسب الوثائق التاريخية فإن تجار الموانئ البريطانية مثل بريستول وليفربول "شحنوا" قرابة المليون ونصف المليون أفريقي في سفن العبيد لرحلة الرق أو الموت عبر الأطلسي خلال خمسة وأربعين عاماً فقط من 1761 إلى 1807، وهو ما عاد عليهم بثروات بلغت 60 مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل 8 مليارات بأموال الوقت الراهن.
وقررت بريطانيا في عام 1807 إلغاء تجارة الرقيق، وظل البرلمان البريطاني الذي كان كثير من أعضائه من ملاك العبيد في مزارعهم بالعالم الجديد يعارض مشروعات قوانين تحرير العبيد في المستعمرات البريطانية. فلجأت الحكومة إلى التلويح بحوافز مالية لأعضاء البرلمان، ملاك العبيد، من نواب ولوردات لإجازة القرار وهو ما حدث بالفعل في عام 1833.
من المنطقي أن يعتقد بعضهم أن تذهب أموال هذه التعويضات للرقيق وأحفادهم، لكن ما حدث هو العكس تماماً. فقد اقترض بنك إنكلترا وقتها مبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني أي ما يعادل 40% من موازنة البلاد، أي ما يساوي 2.4 مليار جنيه إسترليني بأموال اليوم، لدفع التعويضات لملاك الرقيق عمّا خسروه من "ممتلكات". واستمرت مدفوعات القرض الذي قدمته للحكومة عائلة روثشيلد حتى عام 2015، وشملت 25 ألف بريطاني من ملاك العبيد. وتكشف أوراق البرلمان البريطاني (مجلس العموم) عن أن عائلة رئيس الوزراء الأشهر ويليام غولدستون، قد حصلت على واحد من أكبر التعويضات بعد تمرير القانون، وأن مجموع ما تقاضاه والده وأخواته تجاوز مئة ألف إسترليني في ذلك الوقت، أي ما يعادل 12 مليون إسترليني بالأموال الراهنة.
الكنيسة والقصر
لم تكن العائلة المالكة ولا البرلمان ولا كنيسة إنكلترا بمنأى عن استرقاق الأفارقة والاتجار بهم، ويشير البروفيسور هيلاري بيكلز، أستاذ التاريخ في جامعة ويست إنديز في كتابه "دين بريطانيا الأسود" إلى أن الملك جيمس الأول أصدر مرسوماً ملكياً في عام 1618 بتأسيس شركة تحتكر التجارة وجلب الرقيق بين لندن وموانئ غينيا وبنين على سواحل غرب أفريقيا، ولا عجب أن ينسب اسم العملة المتداولة "الجنيه" إلى الذهب الذي جلبته السفن لخزائن الملك الذي عرف باسم "ذهب غينيا". وفي عام 1672 أسس الملك تشارلز الثاني ومجموعة من تجار لندن وشقيقه دوق يورك الشركة الملكية لأفريقيا التي استرقت وشحنت أكثر من مئة ألف أفريقي من بلادهم إلى المستعمرات البريطانية خلال ما يقرب من 15 عاماً فقط.
وإلى درجة أقل من العائلة المالكة والبرلمان، كان دور الكنيسة في "اقتصاد الرق". فقد أقرت الكنيسة التي تدير أصولاً تبلغ قيمتها ما يقترب من 13 مليار دولار، أن جزءاً كبيراً من أموالها جاء من عوائد صندوق أسسته الملكة آن في عام 1704 لدعم رجال الدين الفقراء. وقد استثمرت الكنيسة أموال ذلك الصندوق في شركة "ساوث سي للشحن" التي احتكرت نقل الرقيق الأفارقة إلى المستعمرات الإسبانية في الأميركيتين. استثمارات الكنيسة وعائداتها في ذلك الوقت بلغت حوالي 633 الف جنيه إسترليني أي ما يوازي ملياراً وثلاثمئة مليون إسترليني في الوقت الراهن.
وبعيداً عن التورط المباشر والعوائد المالية فقد كشفت أوراق الكنيسة في العام الماضي، عن مسؤوليتها عن وجود "إنجيل العبيد" وهو نسخة من الكتاب المقدس مخصصة للرقيق لا تشتمل على مفردات الحرية والمساواة التي راجت ضمن التبشير المسيحي، إضافة إلى إجبار ملايين الرقيق على التحول عن دياناتهم الأصلية رغماً عنهم.
حديث التعويضات
اعترفت الكنيسة، وبعد قرابة قرنين، بصلتها التاريخية باسترقاق الأفارقة والاتجار بهم عبر الأطلسي دون أن تعلن اعتذاراً رسمياً عن ذلك، وقررت تأسيس صندوق في العام الماضي بقيمة 100 مليون جنيه إسترليني، لكن لجنة مراجعة عينتها "هيئة المفوضين" المالية التي تشرف على أملاك الكنيسة اعتبرت تلك المخصصات غير كافية، وطالبت بتخصيص ما يزيد عن مليار جنيه إسترليني ضمن صندوق تحت اسم " التداوي والإصلاح والعدالة" للاستثمار في مشروعات تعود بالنفع على المجتمعات التي تضررت من جراء تجارة الرقيق. وطالبت اللجنة بأن تقر الكنيسة وتعتذر عن الصلة التي ربطتها بتجارة الرقيق عبر الأطلنطي. ولم تعلن الكنيسة عن قبولها صراحة بالتقرير، لكنها أشارت إلى أنها تعتزم العمل ضمن توصياته.
لكن خبراء بارزين مثل البروفيسور ماريكا شيروود يرون أن ما تقوم به الكنيسة "قليل جداً، ومتأخر جداً"، وأن الحديث عن ملف التعويضات يجب أن يكون أكثر شمولية وتنظيماً.
تواصلت "العربي الجديد" مع المكتب الإعلامي لكنيسة إنكلترا، لسؤالهم عن الخطوة التالية في قضية التعويضات، فجاءنا الرد كتابياً بالإحالة إلى التوصيات الصادرة مؤخراً مع الاعتذار عن عدم الحديث إلى الإعلام بهذا الخصوص في الوقت الراهن.
لكن السؤال لا يزال قائماً، هل تفتح خطوات الكنيسة الباب أمام اعتذار رسمي من المؤسسة البريطانية وتعويضات للسكان المتحدرين من الرقيق في الكاريبي والدول الأفريقية التي استُعبدوا منها؟
تقول الإعلامية السابقة في بي بي سي لورا تريفيليان، أحد أمناء مركز "تريفليان – غرينادا للتعويض عن الرق" إن ما نشهده في الوقت الراهن، وبعد 190 عاماً من إلغاء الرق، هو بدايات اعتراف بالدور البريطاني، "لكن ما نريده هو اعتذار من الحكومة البريطانية عما حدث وفتح الباب أمام مناقشة ملف التعويضات، وأيضاً أن يقوم الملك تشارلز، عندما تتحسن صحته ويخاطب قمة الكومنولث في أكتوبر المقبل بالاعتذار عن الدور التاريخي الذي ربط العائلة المالكة بتجارة الرقيق، من شأن هذا أن يكون نموذجاً لبقية المرتبطين بتلك التجارة، خاصة لو أعلن تخصيص جزء من ثروته الطائلة ضمن صندوق للتعويضات".
وقد اكتشفت لورا تريفليان أن عائلتها كانت من ملاك العبيد قبل سنوات قليلة عندما تم نشر قائمة أسماء التعويضات التي دفعتها الحكومة لملاك الرقيق بعد قرار البرلمان بتحرير العبيد في الكاريبي.
وتقول إن خطوة الكنيسة أخلاقية في المقام الأول "لكنها لم تعلن الأموال التي خصصتها على سبيل التعويض، ونحن في انتظار أن يتبع الملك خطوات الكنيسة التي يترأسها".
لكن ترجمة الحديث عن التعويضات إلى أرقام ربما تكون مفزعة لمعظم البريطانيين، الذين يعارض أكثر من نصفهم بحسب مسح أخير، دفع تعويضات عما اقترفه أسلافهم ولا يرون ضرورة لربط الماضي بالحاضر. وبحسب دراسة شاملة لمجموعة "براتل" البحثية والقانونية في العام الماضي، فإن فاتورة التعويضات التي يتعين على الدول التي شاركت في جريمة تجارة الرقيق عبر الأطلسي تتراوح بين 100 تريليون و 131 تريليون دولار، نصيب المملكة المتحدة منها لن يقل بأي حال عن 20 تريليون دولار. الدراسة احتسبت قيمة التعويضات بناء على عدة عوامل منها قيمة التعويض عن الضرر الذي لحق بكل شخص تم استرقاقه أو وُلد في الرق، وعدد السنوات التي استمر فيها الضرر وتراكم الفائدة على التعويض المستحق بسبب التأخر في دفعه.
ورغم أن المطالبين بالتعويضات يتفقون على ضرورتها اقتصادياً وأخلاقياً، إلا أنهم يختلفون حول كيفية تخصيصها، فهم يستبعدون إمكانية دفعها لملايين الأفراد المتحدرين من نسل الرقيق، وبدلاً من ذلك يطالبون بتخصيصها للنهوض بالمجتمعات التي لا تزال تعاني اقتصادياً واجتماعياً بسبب تلك الجريمة التي ارتكبها الغرب وسبّبت ثراءه الاقتصادي في حين عادت عليها بالخراب في أفريقيا والكاريبي.